أكرم اللوح- لم تكن مدينة رفح، الواقعة جنوب قطاع غزة وبوابته الجنوبية، بداية حكاية المأساة والوجع الذي يعيشه المواطنون في القطاع، ولكن يبدو أنها ستكون نهاية أحد فصول الإجرام والقتل المنظم الذي ينفذه جنود الاحتلال، من إعدامات ميدانية واعتقالات عشوائية وإبادة لكل أشكال الحياة والأمل في تلك المدينة.
مشاهد مروعة لم تتمكن أي عدسة من التقاطها، ولكن نقلها ناجون نازحون من منطقتي تل السلطان والشابورة في رفح خلال اليومين الماضيين، لإعدامات ميدانية لمدنيين، وجثث متراكمة في الشوارع، وأمهات استشهد أبناؤهن أمامهن ولم يتمكن من حملهن وإكرامهم بالدفن، وعائلات لم يسمح لها بنقل جثامين أبنائها الملقاة في الشوارع لتنهشها الكلاب الضالة.
الجريح والمريض سلطان محمود العمواسي، والذي اعتقله جيش الاحتلال أمس الأول، وتم الإفراج عنه أمس عبر معبر كرم أبو سالم روى تفاصيل مروعة للمجازر والإبادة التي حدثت في حي تل السلطان برفح، قائلا: “هناك عشرات الجثث الملقاة على جانبي طريق البحر، وشهداء في سيارات محترقة، وتم إطلاق النار على المدنيين من نساء وأطفال من قبل دبابة إسرائيلية، وأصبت بثلاث رصاصات قبل اعتقالي ونقلي إلى معتقل النقب”.
ويكشف العمواسي في شهادة مصورة وموثقة نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي حجم الإرهاب والإبادة التي تواجهها الآن منطقتا تل السلطان والشابورة في رفح، بعد حصارهما من قبل دبابات الاحتلال وتنفيذ إعدامات ميدانية للأطفال والنساء والشبان وتكدس الجثث على جانبي الطرقات دون أي قدرة على نقلهم أو إسعاف المصابين في تلك المنطقة المحاصرة.
ويروي العمواسي بداية القصة، عندما أمر الاحتلال سكان حي تل السلطان بالخروج والتوجه إلى حواجز أقامها جنوده تسمى “الحلابات”، وذلك عند منطقة البركسات، ولكن عند وصول المدنيين هناك، وبالتحديد عند مسجد حلمي صدر، وجهتهم قوات الاحتلال من خلال طائرات مسيرة إلى السير مشيا على الأقدام عن طريق البحر والتوجه شمالا نحو منطقة خان يونس.
ويضيف العمواسي: “خلال السير باتجاه شارع البحر، شاهدنا الشهداء في الشوارع، وآخرين في سيارة صفراء اللون، وغيرهم ملقى في شارع الطيران، ولدى خروجنا من شارع عيادة الوكالة متوجهين نحو البحر، خرجت علينا دبابة إسرائيلية وبدأت بإطلاق نار عشوائي على الأطفال والنساء والشيوخ، وأصبت حينها بجروح، وكان بجواري خمسة مصابين لم يتمكن أحد من إسعافهم، واستطعت أن أصل إلى الحلابات ليتم اعتقالي هناك ونقلي إلى سجن النقب”.
ويؤكد العمواسي أنه أخبر جنود الاحتلال أنه مصاب بثلاث رصاصات ويعاني من مرض السرطان، ولكن كانت الإجابة برفض علاجه في المستشفيات وقالوا له: “سنعيدك إلى غزة لنقتلك بالرصاص مرة أخرى”.
ووفقا للعمواسي تم إطلاق سراحه الساعة الثانية عشرة ليلا عبر معبر كرم أبو سالم، وتم توجيهه للسير نحو خان يونس وتهديده بإطلاق النار عليه لو انحرف عن المسار المرسوم له، مؤكدا أنه رغم معاناته من الإصابة والسرطان تمكن من الوصول سيرا على الأقدام إلى المستشفى في خان يونس لتلقي العلاج.
ونقل الزميل الصحفي أسامة الكحلوت عن ناجية من المجزرة، وهي مسنة تحمل وعاء طعام وخبزا وتصرخ وتبكي قائلة: “لقد نجوت وحدي، أعددت الطعام قبل أن نهرب من تل السلطان، وقالت لو أدركنا أذان المغرب، يمكن أن نفطر في طريق النزوح، ولكني بقيت وحدي، فقد قتل جيش الاحتلال زوجي وأولادي الاثنين”.
فيديو مرعب وقاتل لكل المشاعر الإنسانية، نشره الناشط حازم سليمان، لأم ترتدي جرزة رجالية ونظارة طبية في محاولة لإخفاء عيونها المرعوبة وتحمل أكياسا بالية لبعض الملابس التي تمكنت منها قبل الهروب من الموت، وتحاول أن تبكي ولكن لا دموع من هول ما رأت، وتقول في روايتها المرعبة: “وجدت ابني عند منطقة البركسات مصابا بطلق ناري في بطنه وقد استشهد، ما قدرت أحمله معي، الدبابة الاسرائيلية كانت قريبة مني، تركت ابني حبيبي لوحده في الشارع، يا رب أقدر أجلب جثمانه”.
وعلق الكاتب والناقد السياسي الدكتور تيسير عبد الله على فيديو المواطنة قائلا: “من أصعب المواقف الإنسانية التي لا يمكن تخيلها أن يرى أحد الأبوين أو كلاهما ابنه يموت ويقتل بجانبه، ثم أمامه دقيقة أو أقل ليتخذ القرار تحت زخات الرصاص والقنابل بأن يتركه ليواجه النزيف والموت وحيدا”.
وأضاف: “في هذه الدقيقة التي تعادل سنة، يجب على الأم أن تقسو على عاطفة أمومتها وتصل إلى قناعة بأن ابنها سيموت ووجودها بجانبه لن ينفعها، وإلا ستموت هي بجانبه أيضا بالرصاص الذي يطاردها”.
وتابع: “هذا ما فعله ويفعله إرهاب الاحتلال بمشاعرنا الفطرية والطبيعية، صحيح أن هذه اللحظات تمر ولكنها تخلف شعورا بالذنب في القلوب يذبحنا في كل لحظة بقية الحياة حتى نلحق بأبنائنا”.