عزيزة ظاهر- في مدينة جنين، وتحديدا بين جدران مستشفى ابن سينا التخصصي، تتجسد واحدة من أكثر القصص الإنسانية إيلاما، حيث يقيم المسنان أبو علاء وأم علاء عويس منذ ما يقارب العامين بجانب سرير ابنتهما الجريحة رجاء (45 عاما)، الأم التي كانت يوما ما تضج بالحياة وتفيض حنانا على أطفالها الخمسة، باتت اليوم أسيرة غيبوبة طويلة، بعد إصابة بالغة في الدماغ إثر رصــاص قوات الاحتلال خلال اقتــحام دموي لمخيم جنين قبل نحو عامين.
بيت مهدم وحياة معلقة
منذ تلك اللحظة، تغير كل شيء في حياة العائلة، البيت الذي كان يجمعهم تحول إلى ركام، والأم التي كانت تدير تفاصيل حياتهم اليومية أسكت صوتها، والأبوان الطاعنان في السن حملا على عاتقهما مسؤولية رعاية ابنتهما، بين جدران المستشفى الذي أصبح بيتهم الثاني، بل بيتهم الوحيد.
الأب فضل عويس أبو علاء (78 عاما) يتحدث لـ “الحياة الجديدة” بصوت يختنق بالألم: “بنتي رجاء انصابت قبل سنتين عندما اقتحم الجيش بيتها وفجروا الباب، من وقتها وهي بغيبوبة، حياتنا كلها انقلبت، صرنا عايشين بهالغرفة، ما ظل بيت، وما ظل حياة زي قبل”.
أما والدتها أم علاء (77 عاما)، فلا تفارقها دموعها وهي تضع يدها على رأس ابنتها، تهمس لها بالدعاء وتنتظر لحظة استجابة من السماء، وتقول: “رجاء أم حنونة عندها خمس أطفال، كل يوم بدعي ربنا يشفيها، كل اللي بتمناه من الدنيا إنها تفتح عيونها، تسمع صوتي وتقول لي: يما”.
صورة لوجع متواصل
بين تنهيدات الأبوين وأجهزة التنفس التي تلازم جسدها، تختصر قصة رجاء وجع فلسطين المتواصل، فهي ليست مجرد حكاية خاصة بعائلة واحدة، بل مرآة لمئات القصص المشابهة في مدن وقرى ومخيمات، حيث تتحول الأمهات إلى أيقونات للصبر، والآباء إلى حراس للأمل، والأبناء إلى يتامى من الحنان وهم ما زالوا في كنف أمهاتهم الأحياء.
معركة بين الألم والرجاء
ففي الممرات الضيقة للمستشفى، باتت تعرف رجاء جيدا رغم صمتها الطويل، أن أبناءها الخمسة يكبرون بعيدا عن حضنها، وأن والديها يشيخان يوما بعد يوم وهما يراقبان أنفاسها الثقيلة، إنها معركة صامتة بين الألم والرجاء، معركة تتجاوز حدود الطب لتصل إلى إيمان لا ينطفئ بمعجزة قادرة على إعادة الحياة إلى جسد أنهكه الغياب.
مأساة تتجاوز الأرقام وأمل لا ينطفئ
قصة رجاء تضعنا أمام حقيقة مرة، أن المأساة الفلسطينية ليست أرقاما في نشرات الأخبار، ولا صورا عابرة على شاشات التلفاز، بل وجوه وأسماء وحكايات من لحم ودم، إنها أم كانت تزرع الفرح في بيتها، فإذا بها اليوم تسكن في صمت، وتترك أطفالها يبحثون عن الدفء في ذكرياتها.
ومع ذلك، يبقى الأمل حاضرا في قلب والديها، اللذين رغم شيخوختهما ومرضهما، يصران على ملازمة فراشها، وكأن وجودهما إلى جانبها هو خيط النجاة الأخير، تقول أم علاء: “رحمة الله واسعة، يمكن بكرة تصحى وتقوم بين ولادها، الله قادر على كل شيء.”
رجاء اليوم ليست مجرد جريحة، بل رمز لصمود مدينة بأكملها، ونداء إنساني يختصر وجع شعب بأكمله، قصتها تعيد التذكير بأن وراء كل جدار مهدوم، وكل سرير في مستشفى، هناك حكاية أم، وأب، وأطفال، ينتظرون الحياة رغم كل شيء.