عبد الباسط خلف- استفاقت طواحين وادي الفارعة صباح الجمعة الماضي على رحيل حارسها الأخير علي مثقال الحمود، الذي ظل يسكنه الشوق طوال حياته لطواحين قريته الوادعة، فقد عاصرها قبل أفول نجمها، وكان أحد عناوين فلاحة أرضها.
وبكت وادي الفارعة بطواحينها وشيبها وشبابها في أول نهارات عيد الأضحى المبارك الحاج أبو مازن، الذي قضى جراء مضاعفات حادث سيرقبل نحو شهر.
وتستذكر “الحياة الجديدة” رواية الحمود التي باح بها قبل سنوات من توقف قلبه عن عشق قريته، واستعاد فيها شباب ينابيع الفارعة التي كانت تتدفق في الوادي بقوة، وأقيمت على حوافها 12 مطحنة قمح تعمل بالماء، وبقيت 3 منها تدور حتى عام 1972، وهي: الدبورية، والزكية، والمشاقية.
وظل الحمود، 79 عاما، يتذكر جيدا جمعه ورفاقه للأسماك من محيط عيون الفارعة، ولم تسقط من ذاكرته حكاية أمه عن أخه الأكبر أحمد الذي توفي بعدما غرق في إحدى الطواحين لشدة تدفق الماء.
ماء و”مندلينا”
ومما باح به المرحوم: كنا نمشي في “طريق تركيا” كل يوم من وادي الربيعية، ونصل بقايا جسر عثماني قديم، ثم نشاهد القادمين على الخيول والدواب، الذين يحملون القمح لطحنه.
وحسب شهادة الحمود، فقد اختفت طواحين الوادي: الميثلونية، والدبورية، والربيعية، والمشاقية، والطوباسية، والطمونية، والزكية، وأخواتها، وبقيت أطلال بعضها، وذكريات شفوية للذين شاهدوها، وهي تعمل بكل طاقتها أيام الحكم العثماني، ثم عاصرها الجيل التالي، فكان أصحاب الطواحين يجمعون الماء في خرطوم خشبي، ويدفعون به إلى حوض في أسفل البناء، وحين يصب الماء على الحجر المربوط بالأنبوب العلوي، يدور دولاب الطاحونة بقوة كبيرة.
ومما قاله الحاج أبو مازن إنه كان أساس الطواحين العمود الخشبي الذي يشبه محرك الجرار الزراعي الذي يشغل الأدوات الزراعية، فهو مربوط بحجر كبير في الأعلى، وحين يتحرك يبدأ طحن الحبوب، وإن أراد إيقاف الدولاب، يقترب من طاقة علوية مربوط فيها ألواح خشبية عريضة كان يسميها الأطفال “مندلينا”، حين تسحب يتوقف تدفق الماء عن فراشات المحرك، وإن أراد إعادة تشغيلها يسحب نحوه في جهة معاكسة. فيما كانت أسفل قناطير الطاحونة تسمى “النذر”، وهي منطقة مرتفعة تجري في داخلها المياه، وتحتها حوض الطاحونة في الأسفل.
واستنادا إلى إفادة الراوي الراحل، فإن طواحين الفارعة كلها كانت تسير بالتتابع، فحين يصل الماء لأول الطواحين وتدور رحاها، تنتقل المياه بسرعة إلى الطاحونة التالية، وهكذا وصولا إلى الطاحونة الأخيرة، عند جسر الملاقي (الذي يجمع وادي الفارعة بوادي الباذان)، وكلها في خط سير الوادي ذاته.
أجور وطحين
وحسب الحمود، فقد كان بعض أصحاب الطواحين يتقاضون ربع الدقيق بدل طحن الحبوب، وبعضهم يأخذ ثلث الطحين، ولم تكن النقود دارجة حتى توقفها عام 1972، ولم تجف ينابيع الوادي طوال عمل الطواحين، فقد كانت الأمطار غزيرة دائما.
وأضاف: كنت أزرع البطيخ والبندورة والخيار والفستق والشمام في الأراضي الوعرة فوق الوادي، وكنا نسحب الماء من آبار عديدة قبل جفافها، وفي مواسم المطر الجيدة كان الوادي يجمع كميات كبيرة من المطر ثم تشربها الأرض، أو تظل تجري حتى جسر الملاقي وتصل نهر الأردن. أما هذه الأيام فمياه الأمطار تتوقف فترة قصيرة، ثم تشربها الأرض، وقد بدأنا نعاني جفاف الآبار منذ بداية الثمانينيات.
اسـتأجر الحمود 30 دونما في المنطقة قبل عام 1967 بـ 60 دينارا لعشر سنوات، وكان يسحب المياه من المنطقة إلى سهل سميط، وحتى في الأراضي الوعرية كان وزن البطيخة الواحدة يفوق 20 كيلوغراما.
وحسب الراوي، فقد جفت بساتين الحمضيات في الوادي وينابيعه، ولم يتبق من طواحين الهواء إلا بعض الآثار المتداعية، وصارت بعض أماكن الطواحين مكرهة تجمع الخنازير، وتجمع ماء المجاري، وتلفظ مطاحن الحبوب آخر أنفاسها، بسبب انتشار المخابز الآلية، وتوقف معظم الناس عن صناعة خبزهم بأنفسهم.
وشيع أهالي وادي الفارعة الحاج الحمود، وفتح رحيله وجع ذكرياتهم على مصراعيها، فقد كان بكوفيته الحمراء وعكازه الأصفر، أحد رجالات القرية وأقدم مزارعيها، ومن أواخر حراس ذكريات طواحينها، التي اندثرت قبل نحو 50 عاما.
سيرة ومطاردة
ويقول ابنه البكر إن والده أبصر النور عام 1946، وتعلم حتى السادس الأساسي في قرية طلوزة، والتصق بالأرض وفلاحتها في سن مبكر، وتعرض لملاحقة جيش الاحتلال بعد وقت قصير من النكسة، ومنع من الحصول على رخصة قيادة.
ورزق الحمود بـ 5 أولاد و4 بنات، وله 70 حفيدا، وتعرض لحادث سير صعب خلال تحضير لزفاف حفيده الذي يحمل اسمه، وفصل لهذا الفرح المؤجل 3 بذلات رسمية، لكنهه رحل دون أن يرتديها.