بدا الأمر أشبه باستجابة لدعاءٍ مهموسٍ أو أُمنية خجولة. أسماءٌ جديدة، أبرزها غسان زقطان وزكريا محمد وراسم المدهون ووليد خزندار ويوسف عبد العزيز، ظهرت في سماء الشعر الفلسطيني، تكتب قصيدة مختلفة الخيال والوعي الجمالي عما سبق.
وكان شعراء الأجيال السالفة، من عبد الرحيم محمود وابراهيم طوقان وحتى أحمد دحبور، مروراً بفدوى طوقان وراشد حسين وهارون هاشم رشيد ومعين بسيسو وسميح القاسم وتوفيق زياد وعز الدين المناصرة، قد لعبوا دروهم التام في خلق قصيدة فلسطينية الهوية خاصة لجهة تبوء الهمّ الوطني الذي وسم حياة الشعب الفلسطيني منذ “إعلان بلفور” المشؤوم.
وحده محمود درويش، العابر للأجيال، إن لم نقلّ المُحلِّق فوق حدود الأجيال والهويات، أفلح في القيام بطفرات متتالية في تجديد القصيدة ومن ثم تجاوز الطريق المسدود الذي بلغه أبناء جيله. ولكن على أهمية دور درويش وانجازه الهائل، كان هناك فراغ، أو للدقة نداء لقصيدة من نوع آخر: قصيدة المدار الخاص، قصيدة الهمّ الفردي والشخصي، القصيدة “غير المنبرية” أو “قصيدة الصوت الخافت” أو ما شابه ذلك من تعابير ومصطلحات.
لم نحرر فلسطين بعد، صحيح! لم نؤسس الدولة المستقلة ذات السيادة بعد، أيضاً صحيح! ولكن أحياناً يتريث الشعر ويتخلف عن مسار السياسة وأحياناً يسبقه. كانت القصيدة التي استرشدت وأرشدت المسار السياسي قد تمتّ على خير وجه وبأشكال متنوعة وأساليب مختلفة بفضل انجازات الشعراء ممن ذكرنا، من عبد الرحيم محمود حتى أحمد دحبور. وأمسى بوسع الشاعر الفلسطيني الآن أن يطمئن ويدخل المدار الخاص من دون أن يحسّ بالقلق أو الذنب. صار الخيال الشعري الفلسطيني مستعداً للإقبال على منطقة ما انفكت حتى ذلك الوقت مُهمّشة أو حتى مُهملة تماماً.
لم يُهمل الشعراء الجدد قضايا المدار العام أو يتناسوه. وما كان بوسعهم أن يفعلوا حتى لو شاؤوا. ولكن الإهتمام جاء من منطلق الخاص والشخصي وانطلق بصوت الفرد وليس الجماعة. أذكر أنه غداة الإنتفاضة الأولى سمعت شخصاً من جماعة “الإلتزام السياسي في الفن” يشكو من أن الشعراء الجدد لم يكتبوا شيئاً عن الإنتفاضة.
-حسناً فعلوا! أو لم يفعلوا! قلت له. الإنتفاضة ليست بحاجة إلى شاعر قبيلة. الذين يصنعون الإنتفاضة يكتبون قصيدتها اليومية أيضاً ولا داع لمحترفي الشعر.
طبعاً هناك من كتب عن الإنتفاضة وغيرها من الحوادث السياسية والعامة مما جرى منذ الإنتفاضة الأولى وحتى الآن. ولكن من جهة التعبير عن وعيّ وجودي فردي يُمثّله هو كشاعر فرد فلسطيني وليس مُمثلاً لأمة وقضية. ولهذا فإن القصيدة الفلسطينية لم تعد بحاجة إلى أن تُقرأ من باب خصوصيتها الفلسطينية. تلك القراءة التي تنطوي على قدر من التملق يُعفي القصيدة من امتحان المواصفات والشروط الجمالية المطلوبة.
جاءت القصيدة الجديدة التي برع فيها غسان زقطان وزكريا محمد وراسم المدهون ويوسف عبد العزيز وغيرهم من قلب التجارب الشعرية العربية الحديثة وساهمت في اغناء هذه التجارب أيضاً. والأهم من ذلك أنها مهدت السبيل لما نشهده اليوم من ظاهرة مُدهشة في الشعر الفلسطيني، حيث غزارة الإنتاج وتنوع الخيارات الجمالية تبشر بموقع مشرّف للشعر الفلسطيني على مستوى الثقافة العربية وأبعد.