-عبد الباسط خلف- يشبه الأربعيني إبراهيم غالب الدمج، الحارة المرتبطة باسمه بـ”رئة المخيم”؛ لوقوعها في قلب المكان، الذي قفز بقوة إلى واجه الأخبار منذ 12 يومًا.
ويضم حي الدمج، جنوب شرق المخيم، قرابة 150 بيتًا، ويرتبط كجسر بمناطق جورة الذهب والحواشين وحارة البشر والغبز ووسط المخيم وخلة الصوحة.
وتتقاسم الحي، تبعًا لإبراهيم، عائلات بريكي وأبو حطب والصباغ وبلالو والغول أو جليّل والسرحان والعرعراوي، ومعظمها نزح من حيفا وما جاورها.
وقال الدمج، بصوت متعب، بعد أن شاهد مجزرة التفجيرات التي استهدف حارته، ظهر الأحد، إن الحي مسرح طفولته، ومهد ذكريات شباب والده، والمكان الذي استضاف جده، لكن كل هذا “مهدد بالإزالة والتدمير الشامل”.
وتابع بحسرة: لعبنا في أزقة الحارة الكرة والكثير من الألعاب الشعبية، ونتذكر خلال انتفاضة الحجارة عام 1987 كيف كان جنود الاحتلال يمنعونا من إكمال ألعابنا، لكنهم يهدمون “مسرح ذكرياتنا”.
نكبات متلاحقة
وأجبرت عائلات الحي عشية اجتياح 2002 الكبير على تركه صوب أحياء ومناطق أخرى في المدينة، لكن المحنة تكررت مرة أخرى بعد عام 2022، واشتداد وتيرة الاقتحامات اليومية.
ويشكل إبراهيم حالة لتعاقب الأحفاد على المخيم، فقد أبصر والده النور في 17 أيار 1939، ودرس الصفين الأول والثاني في مدرسة حي الحليصة بحيفا، التي ينحدر منها، بينما عمل جده محمد في الزراعة بقرية اللجون، وأقصته النكبة من حيفا إلى مخيم جنين، حتى رحيله عام 1980 بعمر جاوز التسعين.
وأقيم مخيم جنين خلال الشتاء القاسي سنة 1950، إذ تغير موقعه من (مخيم جنزور)، الذي يبعد 6 كيلو مترات جنوب شرق جنين، إلى مكانه الحالي الملاصق للمدينة، بفعل الثلوج والأمطار غير المعهودة.
ويحاذي المخيم محطة القطار العثمانية سابقا، ويضم مهجرين من 59 مدينة وقرية مدمرة في أقضية جنين والناصرة وحيفا، ويمتد على 374 دونمًا، قدمت جزءًا كبيرًا منها عائلة الأسير، التي أقام جدها أول مستشفى في المدينة قبل النكبة، إضافة إلى عائلة أبو سيف.
وتابع إبراهيم: حينما شاهد والدي، 86 عامًا، تدمير حارتنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شعر بالقهر، ودخل في حالة حزن شديد.
العائلة الوطن
عاشت عائلة إبراهيم في المخيم، واضطرت خلال الاجتياحات المتكررة لتركه، كما خسرت بيتها في اجتياح 2002، واستشهد ابنها محمد في 21 نيسان 2007، ويقيم ابنها الثاني جعفر في عمان، بينما هاجر هشام، ثالث الإخوة إلى سويسرا منذ سنوات، واعتقل أفراد من العائلة في الانتفاضتين، وخلال النكبة دفعت الثمن من دماء أبنائها.
واتخذ الحاج غالب من حانوته الصغير، وسط مجمع الكراجات في جنين، مكانا دائما لبيع الصحف منذ عام 1964، دون أن يعرف أن حارته ستكون العنوان الرئيس في الجرائد التي يسوقها.
وقال المهندس الزراعي عمر الدمج، إن سكان حي عائلته قدموا إلى المخيم من مناطق حيفا، فيما تنتشر الأسر المنحدرة من قرى جنين، في منطقة الساحة.
وأشار إلى أن تسمية حارات المخيم عرف بين الأهالي، فعادة ما يجري منح العائلة الأكثر عددًا اسم الحي المقيمة فيه، وفي بعض الأحيان ترتبط الأحياء باسم المقيم الأول فيها كحارة الألوب، والبشر المتصلة بالحاج أبو غازي البشر، ومنطقة شارع مهيوب، التي أخذت اسمها من مهيوب أبو الهيجاء، الذي كان أول من شيد فيها بيتًا.
وقدر الدمج البيوت التي هدمت في حارته بـأكثر من 20، عدا الدمار الجزئي والحرق في الكثير من الأحياء.
وتابع: في حينا قرابة 400 من أبناء عائلتي، وفي المخيم كله 15 ألف لاجئ أجبرهم الاحتلال على النزوح من المخيم وحي الهدف، وتوجهوا إلى عدة قرى وبلدات مجاورة.
وتبعًا للمهندس عمر، فإن حي الدمج محاط بخلة الصوحة، إحدى أحياء جنين من شرقه، ويتجاور من جنوبه مع شارع مهيوب، ويحده شمالًا حي الحواشين وشارع العودة، وتوازيه من الغرب جورة الذهب.
انفجار وغبار
بينما شاهد تيسير الدمج، الذي انتقل منذ سنوات لحي السعادة المقابل، التفجيرات العنيفة والمتزامنة بعد ظهر أمس، وتحسر على بيت عائلته وأجداده.
وقال إن كل بيت هدم في المخيم أمس، دفنت معه ذكريات أصحابه التي تناقلت بين 3 أجيال على الأقل منذ عام 1948.
ووفق الدمج، فإن التفجيرات، التي دوت في عموم المدينة والبلدات القريبة، وشوهد غبارها وأعمدة دخانها من مسافات بعيدة، تؤكد أن المخيم يواجه مصيرًا مجهولاً، ويعيش ظروفًا عصيبة.
واصطبغت مواقع التواصل الاجتماعي بتسجيلات نشرها جيش الاحتلال لجنود يعدون لساعة الصفر، قبل الضغط بفرح على صاعق التفجيرات.
فيما تناقل مواطنون يقيمون في أحياء جنين المرتفعة وفي بلدات مجاورة كبرقين وكفر دان ومثلث الشهداء، المشاهد القاسية للتفجيرات، التي شعروا بما أحدثته.