عبد الباسط خلف- يتحامل محمد محمود عبد الرحمن عتيق على ضعف بصره وانحناء ظهره، فيدفع بشق الأنفس عربته التي يطغى عليها الأخضر والأحمر، في شوارع جنين المليئة بالحفر وآثار العدوان؛ ليلتقط رزقه منذ 43 عامًا.
ولخص عتيق، الذي أبصر النور في شباط 1952، سيرته، فأشار إلى ولادته بإعاقة بصرية كبيرة، ومن يومها بدأ يكافح في هذه الدنيا، وأطلق عليه أهله والناس “الأفندي”، دون أن يعرف السبب.
وقال إنه معروف بأبي أشرف، وينال شعبية واسعة بين الزبائن والتجار والمارة، كما تلازمه القبعة بالصيف والشتاء، ولا يتنازل كما أشار عن معاملته الحسنة للجميع، ولا يخرج في إجازة إلا مكرهًا، أو لظروف العدوان والاجتياح، التي صارت تتكرر كثيرًا في السنوات القليلة الماضية.
ويُعد عتيق أقدم عتّال متنقل في جنين، ويلازم مهنته منذ عام 1981، يوم ضاقت الدنيا بوجهه، وانقطعت به سبل العيش، ولم يعد يقوى على رفع الإسمنت والأوزان الثقيلة جداً، والسير في المناطق المحفوفة بالمخاطر، بفعل بصره.
وأفاد بأنه تنازل عن المهنة التي رافقته 18 عامًا أيام صباه، وخلالها ساهم في بناء مدرستين في بلدته برقين، وشّيد عشرات المنازل، ورفع آلاف تنك الإسمنت الثقيل على كتفيه، كما كان شاهدًا على ظاهرة “العونة”، وفيها اجتمع الأهالي على مساعدة أصحاب البيوت حديثة العهد، دون مقابل، قبل دخول مضخات الإسمنت.
اشترى “الأفندي” عربته بـ 50 دينارا، وحافظ على هيكلها المعدني، وأجرى بعض التغييرات على خشبها، ويقطع نحو 20 كيلومترًا كل نهار، ويرفض طلبات أولاده بالتقاعد والراحة؛ لأنه يعتقد أن من يتوقف عن العمل في سنه، فسيصبح رهينة للأمراض.
واستعاد قصصًا من الماضي، يوم كان مشهوراً برفع الباطون على ظهره، وكان الناس يطلبونه على أي ورشة بناء، لأنهم كانوا يعرفون إخلاصه، ويحترمون كفاحه وبساطته وطيبته.
وأفاد عتيق بأنه يشتغل في الصيف والشتاء أكثر من 10 ساعات يومياً، وفي فترة المساء كان يرجع لرعى قطيع أغنامي في السهول والجبال المحيطة ببلدته.
وأضاف بابتسامة عفوية، إن المسافة اللي قطعها مع عربته توصله لو جمعها إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنه يمشي منذ 43 عامًا.
وسرد إنه يعجز في بعض الأيام عن جمع بضعة شواقل، لكن هذا أفضل من أن ينتظر المساعدات، أو يمد يده للناس. كما نقل لأولاده العصامية والاعتماد على الذات.
ووفق الراوي، فقد صارت العربة جزءًا منه، وكان في السابق ينقلها إلى بيته في بلدة برقين (5 كيلومترات غرب جنين) مشياً على الأقدام، ثم أصبح يتركها عند أحد التجار.
وأكد أن العربات تكاثرت هذه الأيام، كما تضاعفت المركبات والمتاجر، وصارت هناك منافسة مع تراجع الحال الاقتصادي، لكنه يلتزم الصمت ولا ينادي على الزبائن، ولا يفاوض أحدًا، غير أنه يصف الوضع بـ”الدمار” بسبب كثرة الاجتياحات، وأزمات الرواتب، وتعطل المشتغلين عن العمل في الداخل المحتل، وحصار جنين ومنع أهالي الداخل من الوصول إليها، إلا في المناسبات القليلة.
درس أبو أشرف حتى الصف الأول الإعدادي، ولم تشجعه أوضاعه الصحية على الاستمرار، واتجه إلى العمل في الباطون، ومساعدة والده في رعي الأغنام والزراعة، وله 5 أولاد وابنتان وعدة أحفاد.
وأوضح أن العمل خلال انتفاضة عام 1987 كان صعبًا، وفيه الكثير من المعاناة، لكن الأحوال الاقتصادية الراهنة أشد صعوبة، كما تضاعف الغلاء عدة مرات، وارتفعت أجرة طلب العربة من 2 شيقل إلى 5.
واختتم بأمنية عامة، وهي أن يشعر الناس بأحوال جيرانهم وأهالي بلدتهم، في هذه الظروف الصعبة، وأن يتفقدوا باستمرار احتياجاتهم، ويعتقد بأن التكافل قوة.
والأفندي، كما نقلنا إلى حامل اللقب، اسم مفرد وجمعه أفندية، وهي كلمة تركية ذات أصل يوناني، كانت تستعمل كلقب اعتباري لأصحاب الوظائف العليا، وشاع استخدامها في مصر والعراق وبلاد الشام مع الحكم العثماني.