“لم يعودوا .. ما زالت صورهم أمامي”
يعود أيلول بعد السنوات الأربعين، فتجدد صبرا وشاتيلا مأتمها، وكأنها على موعد مع كل من يدخلها في هذا التوقيت كي تعيد له روايتها الدامية وما حل بأبنائها ذات أيام ثلاثة.. الأزقة ما زالت تعبق بدماء الأبرياء، هنا، حيث كان جزء من مسلسل سحق العدالة في عالمنا كل يوم ودون محاسبة، لم ترحم سواطير المجرمين طراوة أجساد الأطفال والرضع ولا حتى الأجنة في بطون أمهاتهم، فكانت الصور الأبشع للإرهاب الوحشي في عصرنا.. مجزرة اقترفها حلفاء اسرائيل آنذاك على مسمع الاسرائيليين وأمام أبصارهم، وهم أضاءوا السماء لهم بالقنابل الضوئية لمساعدتهم على قتل أهالي صبرا وشاتيلا من الفلسطينيين واللبنانيين وجنسيات اخرى.. ما يزيد عن آلاف الضحايا والمفقودين، الذين لا يعرف شيء عن مصيرهم حتى اليوم.
بابتسامة لا تمحي ألما تختزنه سنينا عيناه، يستقبلنا محمد عفيفي (أبو صبحي) أمام دكانه في مخيم شاتيلا لنستعيد معه حكايا عن المجزرة وهو شاهد عيان عليها، بسرعة البرق تظهر معالم وجهه الغاضبة دون أن يفقد الرجل هدوءا يتمتع به، يقول: بالحديث عن المجزرة تتحرك الذكريات وأعيد شريط الأحداث، فمن لم ير المجزرة لا يعرف معنى الاجرام الحقيقي، ما شاهدناه لا يوصف، هي جريمة مكملة لجريمة طردنا من وطننا في العام 1948، لاحقنا المحتل في لجوئنا، ليضيف على مأساتنا مأساة، صبرا وشاتيلا رمز وحكاية ألم سيخلدها التاريخ، بصمة عار تلاحق كل من شارك في أفظع فاجعة حلت في مخيمنا، ذبحنا في بيوتنا، ورمينا في العراء.
ويستطرد: اعترضوا على كلمة الرئيس محمود عباس منذ فترة في ألمانيا لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بالمجازر والمحارق التي ارتكبت وما زالت بحقنا نحن الشعب الفلسطيني وهم يواصلون الكيل بمكيالين.
سرعان ما تغرق عينا الرجل بدمع بسابق أسئلة لا يجد لها أجوبة منذ أربعين سنة على حدوث المجزرة: كيف أصف لك حاملا شقوا بطنها ولم نرها إلا وهي منتفخة؟ كيف أصف لك أحد الضحايا المقطوعة رجله فقام القتلة بقطع الثانية وعلقوها على صدره؟ هذا هو التلذذ بالموت.. يقول أبو صبحي.
ويتابع: بدأوا بحصار المخيم من كل الجهات، لم نكن نعرف ماذا يحصل، كنا جالسين هنا قرب منزلنا، فأتانا أحد الشبان الذي يسكن في أحد الأحياء التي وقعت فيها المجزرة، وهو يردد: “أريد سلاحا فهم يذبحون العالم، دخلوا بيتي واختبأت”.. يعلق ابو صبحي: ولكن أين السلاح؟ لم يكن هناك سلاح في المخيم، ليس بيدنا شيء لنفعله.
ويضيف: بدأنا بتهريب الناس فراحوا يقنصون علينا ويطلبون منا تسليم أنفسنا، توجه ثمانية من وجهاء المخيم ليقابلوا قوات الاحتلال الاسرائيلي، “لم يعودوا”.. يكررها أبو صبحي بانفعال وحرقة: “لم يعودوا.. لم يعودوا .. ما زالت صورهم أمامي”.
ويواصل أبو صبحي ذكريات مجزرة ما زال يعيش تفاصيل أحداثها المؤلمة: “والله على ما أقوله شهيد، اننا سمعنا أصوات ميليشيات لبنانية وكان يرافقهم الاسرائيليون، لقد رأيتهم بأم عيني، ولو نكر هؤلاء (الاسرائيليون) دخولهم المخيم، فمن كان يؤمن للمسلحين الذين نفذوا المجزرة داخل المخيم الغطاء؟ من كان يقنصنا ويحرم العالم أن تعود للحياة؟ من مولهم بشتى وأسوأ آلات القتل، البلطات والسواطير وغيرها؟”.
هل تعرفين؟ يردف أبو صبحي: ان شوارع المخيم كانت ممتلئة بإبر المخدرات، كان القتلة يستلذون بقتلنا هنا!
يقارن أبو صبحي بين اليوم والأمس الذي حدثت فيه المجزرة معلقا: لو ان المجزرة وقعت في أيامنا هذه لكانت ظهرت منذ اللحظات الاولى ولم نبق ثلاثة أيام ليعرف العالم بنا، حتى ان الصحافة الأجنبية علمت بها بعد حصولها وقد تم نقل الاشلاء، بينما الحقيقة أن كل ما سمعه العالم عن المجزرة لا يمثل 1% منها، حتى أنا الآن عاجز عن وصف كل ما حدث لكم.
لاحقت قوات الاحتلال الاسرائيلي أبو صبحي الناجي من مجزرة صبرا وشاتيلا فاعتقلته في العام 1985. عن ذلك يقول: أرادوا أن يحاكموني على هجومهم! وأنا الذي من المفترض أن اقاتلهم، سألوني خلال التحقيق: أنت ابن مخيم شاتيلا أين كنت خلال المجزرة؟.. يعلق أبو صبحي: هل هناك أحقر من ذلك؟ والعالم أعمى والعالم أعمى!
عن فترة أسره يضيف أبو صبحي: قضيت عامين في سجون الاحتلال “الرملة والجلمة والدامون”، هناك تنسمت عبير أرضي وبلادي، كان حلما بالنسبة لي، وفي سجن الجلمة اشتميت رائحة قريتي “الياجور” التي هجرنا منها فالسجن يقع عند أطرافها.
لمخيم شاتيلا مكانته بالنسبة لأبو صبحي “هذا مخيم الأبطال والمقاومين، من هنا خرجت دلال المغربي وغيرها من الأبطال من أجل أن يسمع العالم صوتنا بأننا شعب من حقنا أن نعيش في وطن حر ومستقل، ونحن مهما حل بنا لن نتخلى عن عودتنا إليه، ولن ننسى، ودماء شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا لا تزيدنا إلا صلابة وتمسكا بكافة حقوقنا المشروعة”.. يختم محمد عفيفي (أبو صبحي) كلامه لـ “الحياة الجديدة” في الذكرى الاربعين لمجزرة صبرا وشاتيلا.