هنا كان بيت… وهنا كانت حياة
حنين خالد- في زقاق قاقون، وسط مخيم طولكرم، كانت آلاء طلوزي تروي وجعها. هناك، في أحد الأزقة الضيقة، لم يكن البيت مجرد جدران وسقف… كان حياة. “عشنا فيه أجمل أيامنا رغم كل شيء”، تقول آلاء. “رغم اللجوء، رغم الاحتلال، كان بيتنا وطنًا صغيرًا نحتمي به من قسوة العالم”.
تتابع؛ نكبة تُعاد بصيغة جديدة، في صباح الثلاثاء الماضي وصل الإنذار. بلاغ رسمي بهدم بيوت اللاجئين في المخيم. القرار جاء دون سابق إنذار أو بدائل. لا مبررات قانونية ولا إنسانية، فقط قرار قاسٍ، جاف، يُحول حياة عائلات كاملة إلى رماد. “بيت عائلتي كان من ضمن القائمة”، تقول آلاء بصوت تخنقه العبرة. “ذاك البيت الذي ضمّ ضحكاتنا وبكاءنا، أعيادنا وأيامنا العادية… صار فجأة هدفًا للهدم”. وتكمل: “نحن لا نبكي الحجارة، نحن نبكي أعمارنا التي قضيناها هناك، التفاصيل الصغيرة التي صنعت لنا وطنًا داخل الوطن، نبكي الجدران التي حفظت أسرارنا، والزوايا التي شهدت أولى خطواتنا، وآخر ليالينا”.
اقتحام مؤلم… ووداع أخير
في فجر يوم الاربعاء الماضي دخلت قوات الاحتلال المخيم، تحمل قوائم وأوامر. المخيم كله عاش ساعات رعب، كل عائلة تسأل نفسها: “هل جاء الدور علينا؟”
منعت القوات كل العائلات من دخول منازلها، سمحوا فقط لشخص واحد من كل بيت بالدخول لدقائق معدودة، لجمع ما يمكن حمله في أكياس صغيرة. الهويات كانت قد سُلمت مسبقًاً، تروي آلاء. “لم ندخل لنأخذ أغراضنا… دخلنا لنودّع البيت”. وسط كاميرات المراقبة والعساكر المدججين، حاولت العائلة أن توثق ما استطاعت من لحظاتها الأخيرة في البيت. “صورنا الجدران، الأثاث، وحتى رائحة المكان حاولنا حفظها في الذاكرة”، تقول آلاء. “لكن حتى التصوير كان تحت مضايقة ومراقبة”.
الدموع تسبق الحروف
“أنا أتحدث بهذه الكلمات ودمعتي تسبقني، والله العظيم قلبي يتفطر”، تقول آلاء بحرقة لا يمكن لحبر الصحف أن يحتويها. “كل شيء كان سورياليا… مؤلمًا حدّ الصمت. لم يكن بيتًا فقط، كان عمرًا يُمحى أمام أعيننا، وذاكرة تُهدم بالحفارات، ونكبة تتكرر ونحن على قيد الحياة”.
وتضيف: “نحن اليوم لا نُهجّر فقط من منازلنا، بل يُسلب منا حق العودة مرتين، مرة في العام 1948، واليوم مرة أخرى عام 2025”.
الرسالة: كفى صمتًا!
بصوتها المتعب من القهر، توجه آلاء نداءها: “أنا آلاء طلوزي، بنت مخيم طولكرم، أتحدث إليكم من بين ركام الذاكرة، من قلب جرح يُفتح كل يوم، لأقول: كفى صمتًا!”
“الاحتلال لا يسرق فقط الأرض، بل يهدم البيوت، يمحو الذاكرة، ويعتقل الإنسان حتى داخل روحه. ما يحدث ليس حادثًا عابرًا، بل نكبة مستمرة، جريمة موثقة، وصمت دولي مريب”.
ليست مجرد قصة… إنها شهادة عصر
ما حدث مع عائلة آلاء، هو تكرار لمأساة مستمرة منذ 76 عامًا. قرارات الهدم، الاقتحامات الليلية، تشريد العائلات، كلها أدوات لقتل الإنسان الفلسطيني معنويًا وماديًا، وسط تجاهل دولي وتقصير مؤسساتي فاضح.
وفي ختام حديثها تقول آلاء،”ًما كتبه الاحتلال بالجرافات، ستخلده ذاكرة اللاجئين بالحبر والدمع”.