عبير البرغوثي- في بلدتي كفر الديك وبروقين، لم تعد البيوت مأوى، ولا الجدران ملاذًا آمنًا.. منذ سبعة أيام.. تعيش البلدتان تحت كابوس يومي.. اقتلاعًا بطيئًا للحياة من تفاصيلِها. اقتلاعا لا يُدَوّي، لكنه يمزق القلوب بصمت. هناك، حيث الأزقة التي اعتادت أن تستيقظ على صوت الأمهات، باتت ساحات مستباحة… تنمر ممنهج.. المنازل التي كانت تروي قصص العائلة كل مساء تحولت فجأة إلى نقاط مراقبة لجنود الاحتلال ومواقع تحقيق. “الحياة الجديدة” اقتربت من المشهد أكثر لتسلط الضوء على بعض من فصول المعاناةِ اليومية لنساء البلدتين تحت أنياب الحصار وهمجية المحتلين.
“في كل ليلة ننام ولا نعرف إن كنا سنستيقظ جميعًا في الصباح…”
بهذه الكلمات بدأت أم محمد، من بلدة بروقين، سرد حكايتها مع الحصار الذي يطبق على قريتها منذ سبعة أيام. لم تكن هذه الجملة مجرد استعارة، بل حقيقة تعيشها نساء القرية وأطفالهن منذ لحظة دخول جنود الاحتلال إلى بلدتهم، مدججين بالسلاح والعتاد.
“منذ بداية الاقتحام، ونحن نعيش في رعب. أكثر من 80% من البيوت فُتشت، ومنزلنا كان أحدها، اقتحموا المكان وكسروا كل شيء، حتى أننا لا نشعر بالأمان لأن بيتنا يقع في منطقة جبلية، بعيدة عن الأنظار، يمكنهم أن يفعلوا بنا ما يشاءون دون أن يراهم أحد”.. وتقول والخوف بادٍ على وجهها.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك. فمنذ اليوم الأول، صدر قرار بمصادرة 260 دونمًا من الأراضي المحاذية لمستوطنة “بروخين”، وتكررت مشاهد الهدم لمنازل تحت سيف عدم الترخيص، وكأن الفلسطيني يحتاجُ ترخيصًا من محتليه للبناء في أرض آبائه وأجداده، بينما الجرافات والمعدات الثقيلة تتجول في الأزقة الضيقة كأنها تستعرض سطوتها.
“نساؤنا يُحقق معهن في الشوارع، والمواد التموينية باتت حلما”
تروي أم محمد بمرارة: “النساء في البلدة يتعرضن لتحقيقات مهينة. نحن نعيش في حالة توتر دائم، وأجسادنا بدأت تُظهر بقعًا زرقاء نتيجة الضغط النفسي. لا يوجد طحين، لا يوجد حليب أطفال، المرضى لا يُسمح لهم بالوصول إلى المستشفيات إلا بعد تنسيق، ومن يخالف منع التجول يُضرب أو تُسحب منه سيارته”.
في منزل أم أمير.. خراب وسرقة واحتجاز
في الجهة الغربية من بروقين، حيث تقف منازل قليلة قريبة من مستوطنة “بروخين”، تسكن أم أمير. تقول إن الجنود اقتحموا منزلها فجأة، وبدا أنهم يعرفون طريقهم جيدًا.
“دخلوا بيتنا وخرّبوا كل شيء. سكبوا الزيت على الأرض، أفسدوا الطعام، صادروا الهواتف والهويات، واحتجزوني مع ابنتي لأكثر من ساعتين. سرقوا الذهب والمال الموجود في البيت، ولم يتركوا لنا شيئًا. نحن خمسة أفراد نعيش على اللبن، ولا توجد مياه لأننا لا نتمكن من شحن الخزان”، تقول أم أمير.
وتوالي سرد بعض من فصول معاناتها: “زوجي أُصيب بوعكة صحية أثناء الحصار، ولم يُسمح لنا بمرافقته إلى المستشفى. اضطر للذهاب وحيدًا، وحين تعافى، لم يُسمح له بالعودة إلى القرية، فبات يقيم عند ابنته المتزوجة في بلدة مجاورة”.
في كفر الديك.. صراخ طفلة مريضة، وجيش يحتل البيوت
في بلدة كفر الديك المجاورة، لم تكن الأحوال أفضل. (ز.د)، وهي أم لطفلة تبلغ من العمر 8 سنوات وتعاني من “الثعلبة الحمراء”، تصف اللحظات التي عاشوها وسط الحصار: “ابنتي كانت تصرخ من الألم، ولم نستطع إخراجها إلا بعد تنسيق استغرق وقتًا. البنت كانت تنهار أمامنا، ونحن عاجزون”.
أما (ر.د)، فاستُهدفت عائلتها باقتحام همجي لمنزلهم من قبل أكثر من مئة جندي: “جمعونا في غرفة واحدة، صادروا هواتفنا، أطلقوا النار داخل البيت، ولم يرحموا جدتي التي تبلغ 90 عامًا. صادروا الغاز، ومنعونا من شراء الطعام إلا بتنسيق، وحتى البيوت القديمة لم تسلم من التخريب”.
الخرائط المُرقّمة.. ذاكرة الخوف التي لا تمحى
(أ. د)، وهي من نساء كفر الديك، تحمل في صوتها وجعًا أكبر من الكلمات. تصف كيف تحول الحصار إلى شكل من أشكال “الحرب النفسية المنظمة”، فتقول: “الجيش يستخدم خريطة للبلدة تُظهر منازلنا كأرقام، كل بيت عليه رقم، وكل رقم يعني اقتحامًا قادمًا. لا نعرف متى، ولا كيف. نعيش في قلق دائم، نحاول ألّا ننظر في عيون الجنود خوفًا على بناتنا. نرتدي العباءات طوال الوقت لأننا لا نعرف متى يدخلون”.
تضيف: “اقتحموا منزلنا، احتجزونا في غرفة وأغلقوا الباب بالمفتاح. استخدموا البيت وكأنه ملكهم، سرقوا مصاغي الذهبي، ومبلغ 4000 شيقل كنت استلفته لدفع قسط الجامعة لابنتي”.
في بيت (أ. د) حيث تسكن مع 9 أفراد، بينهم طلبة جامعات، الحصار أصبح مأساة تعليمية أيضًا، إذ حُرم الأبناء من الذهاب إلى الامتحانات، وسط صعوبة اقتصادية خانقة.
“أولادي يسهرون ليلاً خوفًا من المستوطنين، فكل سكان مستوطنة بروخين من المتطرفين، حتى الجنود الموجودون في المنطقة من المستوطنين أنفسهم. لم نعد ننام، لم نعد نأكل، لا نعيش، نحن فقط نحاول أن نصمد”، تقول الديك.
قصص لا يجب أن تُنسى
نساء بروقين وكفر الديك لا يطلبن المستحيل، فقط الأمان، فقط القدرة على العيش بكرامة، فقط حقهن في الطمأنينة في بيوتهن، وبين أطفالهن. بين الحصار والجرافات والجنود، هناك قصص إنسانية تختنق خلف الجدران، صرخات مكتومة، وحليب أطفال لا يصل.. ففي الوقت الذي يُسدل فيه الليل ستاره على البلدتين، تبدأ فصول الخوف، العائلات تنتظر بلا حَوْل… كأنّها طردت من ذاكرتها لا من بيوتها فقط.. هناك مشاعر لا تُصوَّر… هناك وجع لا تلتقطه العدسات.. ولا تعبر عنه الكلمات، ما يحدث في كفر الديك وبروقين محاولة لمحو الإنسان من مشهده وسلبه بيته وذكرياته، وصوته.. هنا لا تنتهك المنازل فقط… بل تنتهك الحياة نفسها.

