-عبد الباسط خلف- بكت جنين في يوم عدوان الاحتلال الرابع والسبعين خبازها الأربعيني حسين جميل حسين حردان، الذي قضى على بعد نحو 100 متر من بيته في مشارف ضاحية صباح الخير بالمدينة.
وأغرق استشهاد حردان رواد مواقع التواصل بالحزن على غياب الخباز الأسمراني وطيب القلب، الذي اعتاد مساعدة الأسر المتعففة، ورفض رفع أسعار الخبز رغم موجات الغلاء المتلاحقة.
وقال شقيقه محمد بصوت مسكون بالقهر، إن حسين المولود عام 1982 قتل بدم بارد، إذ داهم الاحتلال بيته ولاحقته مسيرة، وكان بوسع جنود الاحتلال اعتقاله، لكنهم اختاروا قتله، ليترك خلفه عائلة وأطفالا بأمس الحاجة إليه.
قيود ورصاصة
وخسرت عائلة حردان أصغر أفرادها، إذ يسبقه في الترتيب محمد وعلي وشقيقتان، بينما ترك أحزانا ثقيلة في قلب أمه، وزوجته، التي تنتظر مولودا جديدا بعد بضعة أشهر، بجوار البكر حمزة (13 عاما)، وسديل (12 ربيعا)، وأسيل (10 سنوات)، وملاك (6 أعوام).
وأضاف الأخ المكلوم أن حسين اعتقل عام 2002، وأمضى خلف القضبان خمس سنوات ونصف السنة رهن الاعتقال الإداري، وأعيد أسره عام 2009 لعام آخر.
وورث الشهيد حردان مهنته عن والده وجده أبو جميل، إذ اشتهر الأخير في جنين بـ “الفران” قبل عقود، وشرع برفقة أخويه محمد وعلي عام 2008 في إعادة الحياة إلى فرن والدهم الذي رحل قبل عام من انتهاء فترات اعتقالهم.
درس حسين حتى الثامن الأساسي، ثم أتقن مهنة الحدادة، وكان رياضيا في بنيته، وأكمل تعليمه خلف ستائر العتمة، ونال شهادة (التوجيهي)، ولم يلتحق بالتعليم الجامعي، بينما انحاز في طفولته بحي جبل أبو ضهير للعب “الطميمة” و”البنانير”.
وواصل شقيقه المكلوم: أحب أخي عالم السيارات، وكان يقودها منذ بداية الصبا، وامتلك رخصة في وقت مبكر، وخلال عمله حافظ على ثبات أسعار الخبز دون الاكتراث بالارتفاعات المتتالية في أسعار الخبز والمواد التي تدخل في تحضيره، وكانت لديه معادلته الخاصة في حسابات الربح والخسارة.
خبز وحيفا
وتمسك حردان بسعرٍ ثابت للخبز منذ تصاعد موجات الغلاء، مبقيا على وزنٍ ثابت لربطة الخبز تتفاوت من 1380 إلى 1450 غراما، ويبيعها بخمسة شواقل، أما الكعك فيسوق كل 550 غراما بـالسعر نفسه، رغم أنه كان يُشغل 16 عاملا، ويدفع لكل واحد 150 شيقلا يوميا. كما لم يغير حجم الرغيف، بالرغم من ارتفاع سعر الطحين، الذي يُنتج كل كيس منه كمية تتفاوت من 60 إلى 65 ربطة، محققا صافي أرباح بـ 100 شيقل.
بدوره، قال المربي المتقاعد تميم حردان، إنه علم ابن عمومته حسين في الصف السادس، وقد كان مختلفا عن أقرانه، وتفوق عليهم في تفكيرهم، بالرغم من تحصليه الدراسي العادي.
وأضاف بمرارة: صارت تربطني بحسين صداقة، وكنت أرتاد على مخبزه، ووجدت محبة الناس والزبائن له، وهو ما حدث خلال تشييع جثمانه، إذ حضر أطفال مع آبائهم لوداعه، وكان الحزن واضحا على وجوههم.
واستذكر علاقة قربيه بالخبز، فقد ورث حسين اسم جده وعمي حسين أسعد حردان (أبو جميل الفران)، الذي بدأ صناعة الخبز في حيفا قبل النكبة، وذاع صيت مخبزه تحت أحد جسور المدينة، ثم انتقل إلى جنين وأحياء جبل أبو ضهير، وشارع المحطة، وداخل المخيم، ثم ورث المهنة إلى ابنه جميل، الذي أتقن الصنعة ونقلها إلى أولاده، وأصبح حسين الساعد الأيمن لوالده.
وذكر حردان أن أبناء عمومته ظلوا يعملون معا بيد واحدة وتوافق، ورفضوا رفع أسعار الخبز بالمرة، وكانوا يقدمون نحو 400 غرام مجانا في كل كيلوغرام.
يد بيضاء
وتابع بحزن إن حسين كان داعما لبيت المسنين وعدة مدارس وبعض الأسر المتعففة في المدينة، ودخل إلى قلوب كثير من أهلها، وكان يوزع يوميا قسما من إنتاج مخبزه بالمجان للمحتاجين، وخصص في أوقات اجتياحات الاحتلال معظم الخبز دون مقابل لأهالي جنين.
وأكد أن الاحتلال بدأ بملاحقة حسين منذ 4 نيسان 2024، لكنه وكل أحد المحامين لمعرفة أسباب ذلك، وقد أفاده بعدم استهدافه، فمارس حياته بشكل معتاد، وكان يحرص على التواجد في مخبزه معظم الوقت، ولاحقا عاد الاحتلال وحاول اعتقاله مرتين.
ووفق ابن العم، فقد اقتحم جيش الاحتلال بيت حسين قرابة الواحدة والنصف، بعد منتصف الليل، لكنه فر من المنزل، ولاحقوه وأصابوه في خاصرته على بعد عشرات الأمتار، واحتجزوه وتركوه ينزف عدة ساعات، ثم سلموا جثمانه للهلال الأحمر، وكان بوسعهم اعتقاله.
ووصف حردان حال أبناء حسن، فقد كان البكر حمزة في حالة حزن شديدة، وحاول رغم صغر سنة إظهار تماسكه خلال استقبال المعزين على مدخل مقبرة المدينة الغربية، كما سعى إلى إخفاء دموعه مرارا.
واختتم: دخلت والدته المريضة في صدمة كبرى، فقد كان حسين الأصغر والمدلل والأقرب إليها، وحاولت إنكار استشهاده، وبدأت أحزانها بالدموع والعويل، بينما كانت وصية ابنها أن يدفن بجوار زوجها ووالده الذي رافقه طويلا، وهو ما حدث ظهر أمس.
فيما قالت الخمسينية إخلاص الشيخ إبراهيم، التي اعتادت الشراء من فرن عائلة حردان إن خبز جنين أصطبغ أمس بدم حسين، الذي كان إنسانا قبل أن يكون تاجرا، وقد دخلت الأحزان إلى قلوب الكثير من الأسر التي قدم لها العون، وصار طعم خبزهم مجبولا بالمرارة.