1

بين كيسنجر وويتكوف: من دبلوماسية الإعلام إلى الدبلوماسية السرّية

دلال صائب عريقات

سخر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من هنري كيسنجر قائلاً إنّه “كان يسرب المعلومات”، قبل أن يضيف أن ويتكوف “سريّ للغاية”، ترمب لم يكن يكتفي بإطلاق نكتة سياسية خلال خطابه في الكنيست الإسرائيلي قبيل توجهه إلى شرم الشيخ للإعلان عن خطته للسلام في الشرق الأوسط، بل عبّر عن تحوّلٍ عميق في عقل الدبلوماسية الأمريكية بين جيلين. جيلٌ كان يرى في الإعلام والاتصال المفتوح أداة لتليين المواقف وتهيئة الأرضية للاتفاق، وجيلٌ آخر يتعامل مع السرّية بوصفها ضمانة للسيطرة على النتيجة. هذا الفارق ليس مجرد أسلوب، بل فلسفة متكاملة في فهم السياسة والعلاقات الدولية: كيف تُبنى الثقة، وكيف يُدار الصراع، وكيف تُصنع التسويات.

كيسنجر وفي سبعينيات القرن الماضي، ابتكر ما سُمّي “دبلوماسية الذهاب والإياب”، إذ كان يتنقّل بطائرة بين العواصم بعد حرب أكتوبر، محاولًا تثبيت معادلة “السلام الممكن”. لكن ما جعله حالة فريدة في التاريخ الأمريكي لم يكن فقط كثافة تحرّكاته ورحلاته الجوية، بل طريقته في إدارة الرأي العام. كان يؤمن بأن الدبلوماسية لا تُمارَس في الغرف المغلقة فحسب، بل أيضًا في العقول والقلوب عبر الإعلام.

استخدم الصحفيين كأدوات اختبار، فكان يصطحب الصحافيين الكبار على متن طائرته ويُسرب إليهم ما يشاء من أفكار تمهيدية، فيقرأ من خلال ردود الفعل استعداد الأطراف لتنازلات أو قبول حلول وسط. كانت تسريباته المدروسة من خلال الصحافيين بمثابة “استطلاع دبلوماسي” قبل اتخاذ القرار. فهو يختبر المزاج العام محليًا ودوليًا، ليدرك ما يمكن تمريره وما يجب تأجيله. بهذه الطريقة، نجح في تحويل الإعلام من خصمٍ محتمل إلى حليفٍ ذكي، يخدم مشروعه السياسي تحت غطاء الشفافية وقدم في حقل الدبلوماسية نموذج لقيادة الدبلوماسي بتوجيه الاعلام وليس العكس. ورغم الجدل الأخلاقي الذي رافق سياساته، إلا أنّ كيسنجر قدم فهما للدبلوماسية: أنها فن إدارة التناقضات لا إخفائها. كان يعرف أن المصالحة لا تولد من الصمت، بل من حوارٍ متدرّج يوازن بين العلن والسر.

أما ويتكوف، أحد أبرز مهندسي الدبلوماسية في عهد ترمب، فينتمي إلى مدرسة مغايرة تمامًا، مدرسة تقوم على السرّية المطلقة بإطار براغماتي واقعي، حيث تُصاغ السياسات كصفقات على شكل عمليات استخبارية لا كمشروعات تفاوضية. في زمن ويتكوف، تحوّل مفهوم “الصفقة” إلى جوهر السياسة الخارجية الأمريكية. فبدل بناء سردية أو رؤية، كانت الغاية التوصل إلى نتائج سريعة تُعلن بعد إتمامها، دون تمهيد أو مشاركة للرأي العام. في تلك المقاربة، لا مكان لتسريبات كيسنجر ولا لتفاعلات الصحافة. المعلومة ليست أداة اختبار، بل ذخيرة يجب حمايتها حتى لحظة الإعلان.

ربما وجد ويتكوف في ذلك ضمانًا للإنجاز وحماية للمسار من الضغوط، لكن النتيجة كانت اتفاقات تفتقر إلى العمق والشرعية المجتمعية. ما يميز ويتكوف هو الكفاءة التقنية والقدرة على ضبط الملفات، لكنه يفتقد إلى الحسّ التاريخي الذي يجعل الدبلوماسية أكثر من مجرد تفاوض بين مصالح- يجعلها مشروعًا لبناء الثقة وإعادة تعريف العلاقات الإنسانية بين الشعوب والعلاقات الدولية بين الحدود على أسس العمل الدولي.

في المقارنة بين كيسنجر وويتكوف، يبدو الفرق بين من يبني الجسور ومن يشيّد الجدران.

الأول استثمر في الفهم، والثاني في السيطرة. كيسنجر زرع أسئلة ستظلّ حاضرة لعقود: كيف يمكن تحويل الصراع إلى حوار؟ كيف نصنع سلامًا واقعيًا دون أن نفقد المبادئ؟ أما ويتكوف، فقد مثّل عصرًا يتعامل مع السياسة بوصفها “صفقة تجارية” مقدما المصالح على أي قيم ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنّ العالم اليوم يعيش لحظة تحتاج إلى شيء من الواقعية التي جمعت بين الاثنين: حكمة كيسنجر في قراءة المزاج العالمي، ودقة ويتكوف في إدارة التعقيدات خلف الكواليس.

في منطقتنا، حيث تُختبر الدبلوماسية يوميًا بين الحرب واللاعدالة، تبقى العبرة في المزج بين الحذر والأمل.

فلا نملك ترف المثالية المطلقة، ولا يجوز أن نستسلم لواقعية باردة تنزع السياسة من بعدها الإنساني الحقوقي والقانوني.

ما نحتاجه هو دبلوماسية شجاعة وذكية تتفوق فيها القوة الناعمة، تُصغي إلى الشعوب بقدر ما تتفاوض باسمها، وتفهم أن الصفقات العابرة لا تصنع استقرارًا، وأن التسويات الدائمة لا تُبنى على الصمت بل على المصارحة المدروسة.

ليس من الممكن اكتمال التحليل دون النظر الى تغير النظام العالمي من ثنائي القطبية وقت كيسنجر إلى أُحادي القطبية في عهد ويتكوف واهمية ان الأيديولوجية النيوليبرالية السائدة اليوم تقدم الفرد والربح على أي اعتبار آخر، مثل القيم أو الحقوق أو التوازن ما بين القطبين في عهد كيسنجر.

في النهاية، التاريخ لا يتذكر من أخفى الأسرار، بل من سطر الرواية.. الدبلوماسية التي يحتاجها عالم اليوم هي تلك التي تجمع بين الفهم العميق للمصالح، والإيمان الصادق بالإنسان. وبين الذهاب والإياب، ومن كيسنجر لويتكوف هناك فرصة بأن نعيد صياغة السياسة بما يمنح الأمل دون أن نفقد الواقعية، وأن نؤمن أن طريق السلام يبدأ من الشجاعة والحكمة والعدالة.




رئيس الوزراء لمناسبة اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية: نساء فلسطين.. شريكات النضال وبناء مؤسساتنا الوطنية




مستعمرون يقطعون عشرات أشجار الزيتون في أراضي المنيا جنوب بيت لحم




الطقس: انخفاض طفيف على درجات الحرارة




نهلة عبوشي.. “حرية” جنين الأولى

عبد الباسط خلف- تحمل نهلة رؤوف عبوشي لقب أول أسيرة في جنين بعد النكسة، وتتقاسمه مع الأسيرة المحررة المرحومة سائدة الجزرة.

وتستذكر تفاصيل فجر 9 أيار 1975، حينما اقتحم جيش الاحتلال بيت عائلتها في البلدة القديمة من جنين، وحكم عليها بعام ونصف خلف ستائر العتمة.

وتقول إن والدتها حينما أخبرتها بما حدث مع قريبيها وشبان آخرين، تيقنت بأن الاحتلال سيسلب حريتها، فتخلصت بما تملكه من رسائل وكتب ومنشورات، وكانت تقيم في بيت جدتها أم محمد عزوقة المجاور لمنزل عائلتها، رفقة اختها الصغيرة مها (توفيت لاحقًا)، بالتزامن مع سفر الجدة خارج الوطن.

وتفيد بأن جارتها أم العبد الفحماوي أمضت ليلة اعتقالها معهن، لكن الخوف تملك الأخت الأكبر على شقيقتها ابنة الصف الأول الثانوي، وعند قرابة الواحدة بعد منتصف الليل، طرق جنود الاحتلال باب منزل والدها المجاور بقوة، واصطحبوا معهم مختار المدينة، وأخبرهم الأب بمكان مبيتها، فسارع شقيقها إلى منع الجنود من فتح الباب قبل التأكد من أنهن قد أتممن تجهيز أنفسهن وغيرن ثياب النوم.

وتعود 50 عامًا إلى الوراء، وتتذكر ما أخبرها شقيقها به، من أن المقتحمين يطوقون المنزل والحي بمجنزرات ودوريات، وأن هدفهم اعتقالها، لكن الجنود لم يكتفوا بأسرها، بل اعتدوا على والدها بالضرب المبرح، وراحت أمها تشد أزرها وترفع من معنوياتها.

ووفق عبوشي، التي كانت مدرسة للأحياء في مدرسة الزهراء، فإن جنود الاحتلال نقلوها إلى سجن جنين القريب، وأمضت فيه قليلًا، وأخضعت للتحقيق والتعذيب، والتلويح باعتقال أفراد عائلتها ونسف المنزل.

وتوضح بأنها تنقلت بين معتقلات جنين ليومين، ونابلس في عزل انفرادي لشهرين، وانتهى بها المطاف في سجن الرملة، الذي تعرفت داخله على رفيقات القيد: مريم الشخشير، وعائشة عودة، وسونيا النمر، وسائد الجزرة، التي حكمها الاحتلال بـ”الإداري” وأبعدها بعد تحررها.

كانت عبوشي في الرابعة والعشرين من عمرها، عندما نالت منها قيود المحتل، وسلمها الاحتلال وثيقة طردها من التدريس، بعد مرور 6 أشهر من اعتقالها، وهي الورقة التي قدمتها إلى متحف جامعة بيرزيت.

ويستقر في ذاكرتها سؤال والدها، بعد 3 أشهر من زيارته لها في السجن عن اعترافها على أخريات أو آخرين، فسر حينما كانت إجابتها بالنفي، وأتبع ذلك بالدعوة لها.

وتضيف بأنها عانقت الحرية في تشرين الثاني 1977، وحظيت باستقبال شعبي حافل، ولا تنسى وصول وفود لتهنئتها من القرى، وقدمت لها الهدايا كالخراف والأرز والسكر، وكان تحررها كيوم عرس.

انتقلت عبوشي بعد عناقها للشمس إلى لبنان، ومنها إلى الكويت، وتستقر اليوم في الأردن، ولا تنسى أقسى لحظات اعتقالها، عندما هددها جنود الاحتلال بقرار إبعادها، ونقلوها مقيدة اليدين ومعصوبة العينين إلى منطقة مجهولة، وتنفست الصعداء، عندما سمعت الأذان، وتيقنت أنها ما زالت في الوطن، بعد مرور لحظات عصيبة.

وتروي بعض تفاصيل محاولة الأسيرتين عائشة عودة من دير جرير، ورسمية عودة من لفتا استعادة حريتهن، حينما حفرن بملعقة وشوكة نفقًا أسفل جدار سجن الرملة، وأنكشف أمرهن وهن في نصف النفق، بعد زلة من إحدى الأسيرات.

وتبعًا للعبوشي، فإن الاحتلال تعمد اعتقالهن مع سجينات جنائيات إسرائيليات، كن مدججات بالأسلحة البيضاء، وينفذن اعتداءات بحق الأسيرات، ما يتطلب الحذر الدائم منهن.

وتستعرض فترة الإقامة الجبرية التي فرضها الاحتلال عليها، وكان ينبغي عليها طوال عام الوصول يوميًا على مرتين إلى مكتب ما يسمى الحاكم العسكري، عدا عن المنع من السفر.

عادت عبوشي إلى جنين 3 مرات خلال 50 عامًا، في زيارات قصيرة، ومع وفود سياحية للصلاة في المسجد الأقصى، أولاها عام 1994، لكنها كانت في كل مرة تستجوب من مخابرات الاحتلال.