1

ارتفاع أسعار النفط عالميا




الاعتراف بفلسطين اختبار حقيقي لمصداقية المجتمع الدولي

شهد اليومان المنصرمان تطورًا لافتًا في الموقف الدولي، حيث أعلنت العديد من دول العالم اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، لتنضم بذلك إلى قائمة متزايدة من الدول التي اختارت أن تقف إلى جانب العدالة والشرعية الدولية. هذه الاعترافات، بما تحمله من ثقل سياسي وقانوني، لا يمكن التعامل معها على أنها مجرد خطوات رمزية أو بيانات إنشائية، بل تمثل معيارًا لمصداقية النظام الدولي نفسه وقدرته على تطبيق مبادئه دون ازدواجية أو انتقائية.

لا يكفي أن يتباكى العالم على صور ضحايا حرب الإبادة في غزة أو مشاهد اعتداءات المستوطنين واقتحامات جيش الاحتلال غ في الضفة الغربية، ما لم يتحول الموقف الدولي إلى فعل سياسي وقانوني يغير الواقع. هنا تبرز أهمية اعتراف الدول الوازنة بدولة فلسطين، ليس باعتباره خطوة رمزية أو بيانًا إنشائيًا، بل معيارًا لمصداقية النظام الدولي نفسه وقدرته على تطبيق مبادئه دون ازدواجية أو انتقائية.

فالاعتراف بفلسطين يعني أن القضية لم تعد تُختزل في مفاوضات عبثية تحت رعاية أطراف غير نزيهة، بل باتت قضية تحرر وحق تقرير مصير محمية بالقانون الدولي. وكلما اتسع نطاق الاعتراف، ضاقت مساحة الذرائع الإسرائيلية التي تروّج أن الاحتلال مجرد “نزاع” قابل للتفاوض. ومن خلال هذا الاعتراف، تكتسب فلسطين قوة مضاعفة في المحافل الدولية، من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية، ويُوضَع الاحتلال الإسرائيلي أمام مأزق قانوني وأخلاقي بوصفه قوة استعمارية تفرض نظام فصل عنصري يشبه إلى حد بعيد ما كان قائمًا في جنوب أفريقيا.

وقد نجحت الدبلوماسية الفلسطينية، رغم الظروف الصعبة والقيود المفروضة والحصار الظالم في حصد المزيد من الاعترافات الدولية خلال السنوات الأخيرة. فقد بادرت دول من أوروبا الغربية وأخرى من أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا إلى الاعتراف بفلسطين كدولة كاملة العضوية في المجتمع الدولي، وهو ما يعكس صمود السردية الفلسطينية أمام محاولات التهميش والطمس، ويؤكد أن القضية ما زالت حيّة في ضمير الشعوب. وكلما ارتفع عدد الدول المعترفة، ازدادت عزلة إسرائيل السياسية، وازداد الضغط على امريكا القوة الوحيدة التي ما زالت تقف سوية مع إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال في وجه العالم الذي يسعى لتطبيق حل الدولتين. وهنا تكمن أهمية الاعتراف من قبل دول وازنة، إذ لا يقتصر أثره على الجانب الرمزي، بل يترتب عليه تبعات سياسية واقتصادية وقانونية تفرض نفسها على النظام الدولي بأسره.

لكن الاعتراف لا يتوقف عند الجانب الرمزي أو السياسي كما يروج له البعض، بل يحمل معه مسؤوليات قانونية واضحة لا يمكن التنصل منها. فمحكمة العدل الدولية أكدت في فتواها الصادرة عام 2004 بشأن جدار الفصل العنصري أن على الدول التزامًا مزدوجًا يتمثل في عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال أو أي وضع ينشأ عنه، وعدم تقديم أي شكل من أشكال العون لاستمراره. هذا يعني أن صفقات السلاح، الاستثمارات في المستوطنات، أو حتى الحماية السياسية في مجلس الأمن، جميعها تُعد تواطؤًا صريحًا مع انتهاكات جسيمة للقانون الدولي. فالمسألة ليست مجرد تضامن سياسي أو موقف أخلاقي، بل التزام قانوني يقع على عاتق كل دولة تعلن اعترافها بدولة فلسطين، وهو التزام يستند إلى قواعد راسخة في القانون الدولي العرفي والاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقيات جنيف.

التاريخ يقدم شواهد واضحة على أن الاعتراف الدولي يمكن أن يكون سلاحًا فعّالًا في مواجهة أنظمة القمع. وتجربة جنوب أفريقيا في مواجهة نظام الفصل العنصري تظل المثال الأبرز. لقد ظل ذلك النظام لعقود يمارس التمييز العرقي والقمع الممنهج، لكنه لم يصمد أمام عزلة دولية متنامية ورفض قاطع من غالبية دول العالم للاعتراف بشرعيته، تزامن مع فرض عقوبات سياسية واقتصادية وثقافية أثبتت فعاليتها. لم يكن سقوط نظام الأبارتهايد مجرد نتيجة لصمود الشعب الجنوب أفريقي، بل ثمرة لتضافر الضغوط الداخلية والخارجية، ولإجماع دولي على أن الفصل العنصري جريمة لا يمكن القبول بها. وما حدث هناك ليس استثناءً، بل تطبيق مباشر لمبدأ راسخ في القانون الدولي: الأنظمة غير الشرعية لا تعيش طويلًا حين يواجهها العالم بإجماع أخلاقي وقانوني.

إن الموقف من فلسطين اليوم ليس أقل وضوحًا، بل ربما أكثر إلحاحًا. فالعالم يواجه نظامًا استعماريًا وعنصريًا تتكشف جرائمه يوميًا أمام شاشات التلفاز ووسائل الإعلام. ان الاستمرار في التهرب من الاعتراف بفلسطين والتقاعس عن محاسبة الاحتلال لا يمثل فقط خذلانًا لشعب تحت الاحتلال، بل يضع مصداقية النظام الدولي برمته على المحك. إن ازدواجية المعايير التي تمارسها بعض القوى الكبرى، حين تدّعي الدفاع عن القانون الدولي في أماكن معينة بينما تغض الطرف عن انتهاكاته في فلسطين، تفرغ هذا القانون من مضمونه وتحوله إلى أداة سياسية انتقائية.

إن الاعتراف بفلسطين في هذه اللحظة ليس مجرد تعبير عن تضامن، بل خطوة حقيقية لإعادة الاعتبار للقانون الدولي، ورسالة واضحة بأن العالم لن يقبل استمرار الاحتلال إلى ما لا نهاية. هو أيضًا رسالة أمل للشعب الفلسطيني بأن صموده لم يذهب سدى، وأن دبلوماسيته النشطة بدأت تحصد ثمارها في عزل الاحتلال وتعزيز مكانة فلسطين كدولة مستقلة في طور التحقق. وكما أثبتت تجربة جنوب أفريقيا أن الضغوط الدولية يمكن أن تسقط أعتى أنظمة القمع، فإن الاعتراف بفلسطين وتحمل المسؤوليات المترتبة عليه قد يكون المدخل لمرحلة جديدة تقترب فيها لحظة الحرية، وتضع نهاية لأحد أطول وأقسى أنظمة الاحتلال في التاريخ المعاصر.




الاحتلال يقتحم عدة قرى في جنين




الطقس: انخفاض ملموس على درجات الحرارة