إصابات بالاختناق خلال اعتداء قوات الاحتلال على طلبة مدارس الخضر
الاحتلال يعتقل ثلاثة فتية من جبع جنوب جنين

د. دلال صائب عريقات
في معركة الحرية، لا يكفي أن نرفع الشعارات في المحافل الدولية، ولا أن نحمل قضيتنا من مؤتمر إلى آخر، نناشد العالم بضمير قد نام. فلسطين اليوم، كما كانت أمس، لا تحتاج فقط إلى تأييد الخارج، بل إلى يقظة الداخل. التغيير الحقيقي يبداً وينتهي بالداخل. الخارج مكملات وليس العكس.
أكد لي والدي مراراً أنه “من غير المجدي ان يكون وزن المسؤول ١٠٠ كيلو في عواصم العالم بينما وزنه لا يتجاوز ٢٠ كيلو في فلسطين”. القيادة تُقاس بالثقة الشعبية، وليس بالألقاب أو الأوسمة. هذه هي أبجديات القيادة السياسية.
الرأي العام هو الأساس وحق الشعب لا يسقط بالتقادم، بينما كانت قضيتنا العادلة تجوب العالم، كانت أروقة الداخل تمتلئ بشروخ خطيرة. مؤسسات تنهار، عدالة تغيب، حقوق تُداس، ومناصب تشغل باسم الوطن. لقد أضعنا الكثير من الوقت بينما الداخل يتآكل تحت أقدام الطامعين. لقد ظننا طويلاً أن العمل الدبلوماسي وحده قادر على أن يشق لنا طريق الخلاص، لكننا غفلنا أن أقوى الساحات التي يجب أن ننتصر فيها هي ساحاتنا نحن: في الحكم، في القانون، وفي الضمير الوطني وها نحن نرى اليوم بوضوحٍ لا لبس فيه: لا تحرير مع ظلم داخلي، ولا عدالة مع فساد مستشرٍ ولا تحرر دون إخلاص وانتماء حقيقي لفلسطين والقضية.
ابن خلدون كتب منذ قرون: “الظلم مؤذن بخراب العمران.” وإن الاحتلال الذي ينخر في الجسد الفلسطيني، لا يختلف كثيراً عن ذلك الظلم الصامت الذي يصنعه الفساد والإهمال في أروقة الحكم. إننا نطالب العالم كل يوم بأن يحترم حقنا المشروع، ونستنكر ازدواجية معاييره. لكن، أي احترام نطلبه إذا كنا نحن أول من يدهس معايير العدل تحت أقدام المصالح؟ لا بد أن نعي جيداً أن استغلال المناصب، تحريف القوانين، التلاعب بالثقة الشعبية، كلها ممارسات لا تقل فتكاً عن رصاص الاحتلال.
إن تحرير الأرض يبدأ بتحرير الإنسان من الظلم، بتحرير مؤسساته من الفساد، بتحرير القوانين من أن تكون أداةً للهيمنة وبتحرير العقول من الاستعباد. ليس الاحتلال وحده ما يكبلنا، بل كذلك كل يدٍ خانت العدالة، وكل سلطةٍ داست القانون، وكل صمتٍ تواطأ مع الخطأ. فلسطين لا تحتاج فقط إلى صدى صوتها في الأمم المتحدة، بل إلى صوت الضمير يعلو من كل بيت ومدرسة ومؤسسة: صوت يقول: “لا أحد فوق القانون، ولا شيء فوق الحق.” علينا أن نعيد بناء الداخل قبل أن نطرق أبواب العالم، أن نقيم قلاع العدالة في مؤسساتنا قبل أن نشكو ظلم الآخرين، أن نحمي الحلم الوطني من التآكل كما نحميه من الرصاص. نصوص القوانين الفلسطينية لا غبار عليها. علينا بالإنفاذ وتماماً كما نطالب العالم بعدم الازدواجية في المعايير، علينا احترام إنفاذ سيادة القانون بعدالة بغض النظر عن الجاني وولاءاته علاقاته أو انتماءاته. لن يتحقق النصر ما دمنا نطالب العالم بالعدل بينما نغض الطرف عن ظلمه بيننا ولا يُصان حق شعبٍ إلا إذا صانه بنفسه أولاً ولا يُنتصر لقضية عادلة إلا بأيادٍ طاهرة وضمائر يقظة.
فلسطين اليوم تحتاج إلى يقظة داخلية حقيقية. فالتغيير الذي نصبو إليه لا يُصنع في الخارج، بل يبدأ من داخلنا، من وعينا وإرادتنا وإصرارنا على بناء وطن لا تهز أركانه الرياح. معركة التحرر الحقيقية تبدأ من الداخل: من الحكم الرشيد، من إنفاذ القانون، ومن إعلاء صوت الضمير الوطني.
لا تحرر بدون عدالة، ولا عدالة بدون سيادة قانون تُطبق على الجميع دون تمييز، لا استثناءات ولا ولاءات ولا امتيازات.
كل انتصار سياسي أو دبلوماسي لا قيمة له إن لم يُترجم إلى عدالة في حياة الناس. من يُهمل بناء الداخل، يكتب شهادة هزيمته بيديه. سيادة القانون ليست خياراً، بل شرط وجود لدولة حرة وشعبٍ كريم.
د. ســـائد الكونـــي/ وزير الحكم المحلي الأسبق
في العام 2016 همت وزارة الحكم المحلي تقديم مشروع قرار بقانون لإجراء تعديلات على آليات الترشح والانتخاب للهيئات المحلية الفلسطينية، وذلك من واقع مسؤولياتها وقربها اليومي من احتياجات وطموحات مواطني الهيئات المحلية، وتحديداً بما يتعلق بتشكيل مجالسها المنتخبة. مبادرة الوزارة هدفت إلى العمل على تلبية هذه الاحتياجات وتحقيق الطموحات المنشودة، وجعل المواطنين شركاء حقيقين في اختيار ممثليهم المحليين، والرقابة الفاعلة لاحقاً على آليات اتخاذ القرار في المجالس المنتخبة من خلال المجالس الاستشارية.
عقدت الوزارة حينها لقاءات توعية للتعريف بمقترحاتها في عدد من المؤسسات وعلى وجه الخصوص في الجامعات الفلسطينية، رغبة منها في الاستماع والتحاور مع القطاع الشبابي، للفئة العمرية ما بين 18-29 عاماً، كونهم يمثلون ما نسبته 22% من إجمالي السكان في فلسطين، أي ما يزيد عن خمس المجتمع الفلسطيني، بحسب إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء في منتصف العام 2023. وهو توجه تم رفع له القبعة احتراماً كون هذه الفئة العمرية تشكل المخزون البشري الاستراتيجي لشعبنا الفلسطيني، وقياداته المستقبلية المناط بهم مهام جسام متمثلة في السعي نحو التحرر وإحداث التغيير المنشود في شتى مجالات الحياة العامة الفلسطينية. ومن الطبيعي أن يتم إشراكهم في صياغة أية تعديلات على آليات النظام الانتخابي للهيئات المحلية، التي سيكون لها الأثر الكبير في رسم خريطة عمل هيئاتهم المحلية لسنوات طويلة، خاصة إذا ما علمنا بأن القانون الحالي الناظم لانتخابات مجالس الهيئات المحلية هو القانون رقم 10 لسنة 2005 (بتعديلاته الطفيفة التي لم تمس جوهر الآليات الانتخابية). أضف إلى ذلك الحالة الفلسطينية الراهنة التي لا تسر الصديق ولا تغيظ العدا، ولا نرى لها نوراً يبشر بنهاية نفقها المظلم، ما لا يتوقع معه أن ينظر خلال مدى زمني ملائم في تعديلات مستقبلية قد تكون ملحة.
للأسف باءت محاولة الاصلاح تلك لوزارة الحكم المحلي بالفشل، لما أسميته حينها بـــ “الفكر الأبوي” الذي يحكم صناعة القرار في مجتمعنا الفلسطيني، وذلك في مقالة متعلقة بالخصوص نشرتها لي صحيفة القدس المقدسية بتاريخ 12-12-2016، وهو فكر تمارسه العائلات والعشائر في القرى والبلدات، والتنظيمات و/أو الفصائل في المدن، في آليات تشكيلها للقوائم الإنتخابية المغلقة، حيث يتم ترتيب أسماء المرشحين فيها بحسب الولاء أو القرب أو البعد من صاحب “الفضل” في اتخاذ القرار بترشيح فلان أو علان وترتيبه في القائمة. وقد أظهرت نتائج انتخابات الهيئات المحلية المتعددة التي أجريت الفشل الذريع بكل المقاييس لهذه الآلية؛ بدءاً من الإشكاليات التي صاحبت تشكيل القوائم وترتيب أسماء مرشحيها داخلها، مروراً بما أفرزته آلية التشكيل تلك من هوةٍ انتخابية بين القوائم المُشكلة وقواعدها الانتخابية، التي تمردت على الخيارات الأبوية في تشكيلها، لتأتي رياح الانتخابات بما لم تشتهِ السفن. أضف إلى ذلك ارتهان صناعة القرار في المجالس المنتخبة في أحيانٍ كثيرة بـــ “إملاءات” أو “رغبات” أو “تمنيات” الجهات الأبوية، التي لم تصبّ بالضرورة في الصالح العام للهيئة المحلية ومواطنيها. والنتيجة إحباط وعدم رضى جماهيري على أداء المجالس المتعاقبة وعرّابيها.
استجابت وزارة الحكم المحلي مشكورة في مقترح تعديلاتها للعام 2016، للرغبة الجماهيرية في التحول إلى نظام القائمة النسبية المفتوحة ذات الصوت الواحد بديلاً عن نظام القائمة المُغلقة، وهو نظام يصوّت فيه الناخب للقائمة ورئيسها، وينجم عنه ترتيب مرشحي القائمة وفق إرادة الناخبين، أي وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع. ومن فوائد هذا النظام للقائمة وفصيلها، أنه لا يجعل أحداً من مرشحيها في مأمن من عدم الفوز، وبالتالي يحثهم على العمل بجد واجتهاد لانجاح القائمة، لأن في نجاحها مصلحتهم الفردية، على قاعدة المصلحة المشتركة للقائمة والمرشح، وتعزيز روح التعاون والعمل بمقتضى المثل القائل “الفرد للكل والكل للفرد”. وفي هذا النظام أيضاً مصلحة ونصرة للفصيل أو الحزب، إن كان ذلك هو المبتغى من العمل بنظام القوائم الانتخابية، حيث أن نظام القائمة المفتوحة بالآلية المشار إليها يعمق من التفاف القاعدة الجماهرية لكل فصيل حول قائمته الانتخابية، كون الناخب المؤطّر يشعر باحترام قيادته لرأيه في اختيار قياداته المحلية الأجدر من أبناء فصيلهم الذين اشتملت عليهم القائمة.
ذوو “الفكر الأبوي” لم يرق لهم بطبيعة الحال تلك المقترحات، لما رأوه فيها من حدٍ لسطوتهم الأبوية في صناعة المجالس المحلية وقيادتها من المريدين. فكان الطرح بالقبول بنظام القائمة المفتوحة، ولكن مع إتاحة المجال للناخب للتصويت لأكثر من مرشح من داخل القائمة (كما هو مطروح الآن)، وهو خيار يُتيح لذوي “الفكر الأبوي” المحافظة على نفوذهم في تشكيلة المجالس المنتخبة والتأثير اللاحق على مجريات أعمالها، من خلال الترويج، أو بالأصح “الكولسة”، لأعضاء القائمة المرضي عنهم أو المقربين منهم. مقترح يحقق لهم المراد، دونما انتباه لما يسببه من حزازات ومشاحنات بين أفراد القائمة الواحدة؛ فهو يفرقهم ويُعيق العمل الجماعي الآني والمستقبلي بينهم، ويُضعف فرص فوز قائمة الفصيل أو نسب حصادها الانتخابي.
رفضت وزارة الحكم المحلي وحكومة الوفاق الفلسطينية آنذاك أنصاف الحلول، وآثرت الإبقاء على النظام القائم بعيوبه، يحذوها في ذلك قول الشاعر: “أيقتلكِ البردُ ؟ أنا …. يقتلني نِصفُ الدفئِ … وَنِصفُ المَوقِفِ أكثر”. وحريٌ بوزارتنا العتيدة اليوم كما بالأمس طرح مقترح التعديل القائم على نظام القائمة النسبية المفتوحة ذات الصوت الواحد، احتراماً لإرادة الجماهير والقواعد التنظيمية في اختيار ممثليهم وقادتهم المحليين، وبما يُحتم على القيادات الفصائلية بادئ ذي بدء من الاحتكام إلى المعايير المهنية البحتة في اختيار مرشحيهم من أبناء التنظيمات أو خلافهم من أصحاب الخبرة والصلاح، ومن ثم إفساح المجال لعناصرهم ومناصريهم أمر تحديد من يفوز ومن يقود.