1

حارة الدمج…حكايات نكبوية..!!

-عبد الباسط خلف- يشبه الأربعيني إبراهيم غالب الدمج، الحارة المرتبطة باسمه بـ”رئة المخيم”؛ لوقوعها في قلب المكان، الذي قفز بقوة إلى واجه الأخبار منذ 12 يومًا.

ويضم حي الدمج، جنوب شرق المخيم، قرابة 150 بيتًا، ويرتبط كجسر بمناطق جورة الذهب والحواشين وحارة البشر والغبز ووسط المخيم وخلة الصوحة.

وتتقاسم الحي، تبعًا لإبراهيم، عائلات بريكي وأبو حطب والصباغ وبلالو والغول أو جليّل والسرحان والعرعراوي، ومعظمها نزح من حيفا وما جاورها.

وقال الدمج، بصوت متعب، بعد أن شاهد مجزرة التفجيرات التي استهدف حارته، ظهر الأحد، إن الحي مسرح طفولته، ومهد ذكريات شباب والده، والمكان الذي استضاف جده، لكن كل هذا “مهدد بالإزالة والتدمير الشامل”.

وتابع بحسرة: لعبنا في أزقة الحارة الكرة والكثير من الألعاب الشعبية، ونتذكر خلال انتفاضة الحجارة عام 1987 كيف كان جنود الاحتلال يمنعونا من إكمال ألعابنا، لكنهم يهدمون “مسرح ذكرياتنا”.

نكبات متلاحقة

وأجبرت عائلات الحي عشية اجتياح 2002 الكبير على تركه صوب أحياء ومناطق أخرى في المدينة، لكن المحنة تكررت مرة أخرى بعد عام 2022، واشتداد وتيرة الاقتحامات اليومية.

ويشكل إبراهيم حالة لتعاقب الأحفاد على المخيم، فقد أبصر والده النور في 17 أيار 1939، ودرس الصفين الأول والثاني في مدرسة حي الحليصة بحيفا، التي ينحدر منها، بينما عمل جده محمد في الزراعة بقرية اللجون، وأقصته النكبة من حيفا إلى مخيم جنين، حتى رحيله عام 1980 بعمر جاوز التسعين.

وأقيم مخيم جنين خلال الشتاء القاسي سنة 1950، إذ تغير موقعه من (مخيم جنزور)، الذي يبعد 6 كيلو مترات جنوب شرق جنين، إلى مكانه الحالي الملاصق للمدينة، بفعل الثلوج والأمطار غير المعهودة.

ويحاذي المخيم محطة القطار العثمانية سابقا، ويضم مهجرين من 59 مدينة وقرية مدمرة في أقضية جنين والناصرة وحيفا، ويمتد على 374 دونمًا، قدمت جزءًا كبيرًا منها عائلة الأسير، التي أقام جدها أول مستشفى في المدينة قبل النكبة، إضافة إلى عائلة أبو سيف.

وتابع إبراهيم: حينما شاهد والدي، 86 عامًا، تدمير حارتنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شعر بالقهر، ودخل في حالة حزن شديد.

العائلة الوطن

عاشت عائلة إبراهيم في المخيم، واضطرت خلال الاجتياحات المتكررة لتركه، كما خسرت بيتها في اجتياح 2002، واستشهد ابنها محمد في 21 نيسان 2007، ويقيم ابنها الثاني جعفر في عمان، بينما هاجر هشام، ثالث الإخوة إلى سويسرا منذ سنوات، واعتقل أفراد من العائلة في الانتفاضتين، وخلال النكبة دفعت الثمن من دماء أبنائها.

واتخذ الحاج غالب من حانوته الصغير، وسط مجمع الكراجات في جنين، مكانا دائما لبيع الصحف منذ عام 1964، دون أن يعرف أن حارته ستكون العنوان الرئيس في الجرائد التي يسوقها.

 وقال المهندس الزراعي عمر الدمج، إن سكان حي عائلته قدموا إلى المخيم من مناطق حيفا، فيما تنتشر الأسر المنحدرة من قرى جنين، في منطقة الساحة.

وأشار إلى أن تسمية حارات المخيم عرف بين الأهالي، فعادة ما يجري منح العائلة الأكثر عددًا اسم الحي المقيمة فيه، وفي بعض الأحيان ترتبط الأحياء باسم المقيم الأول فيها كحارة الألوب، والبشر المتصلة بالحاج أبو غازي البشر، ومنطقة شارع مهيوب، التي أخذت اسمها من مهيوب أبو الهيجاء، الذي كان أول من شيد فيها بيتًا.

وقدر الدمج البيوت التي هدمت في حارته بـأكثر من 20، عدا الدمار الجزئي والحرق في الكثير من الأحياء.

وتابع: في حينا قرابة 400 من أبناء عائلتي، وفي المخيم كله 15 ألف لاجئ أجبرهم الاحتلال على النزوح من المخيم وحي الهدف، وتوجهوا إلى عدة قرى وبلدات مجاورة.

وتبعًا للمهندس عمر، فإن حي الدمج محاط بخلة الصوحة، إحدى أحياء جنين من شرقه، ويتجاور من جنوبه مع شارع مهيوب، ويحده شمالًا حي الحواشين وشارع العودة، وتوازيه من الغرب جورة الذهب.

انفجار وغبار

بينما شاهد تيسير الدمج، الذي انتقل منذ سنوات لحي السعادة المقابل، التفجيرات العنيفة والمتزامنة بعد ظهر أمس، وتحسر على بيت عائلته وأجداده.

وقال إن كل بيت هدم في المخيم أمس، دفنت معه ذكريات أصحابه التي تناقلت بين 3 أجيال على الأقل منذ عام 1948.

 ووفق الدمج، فإن التفجيرات، التي دوت في عموم المدينة والبلدات القريبة، وشوهد غبارها وأعمدة دخانها من مسافات بعيدة، تؤكد أن المخيم يواجه مصيرًا مجهولاً، ويعيش ظروفًا عصيبة.

واصطبغت مواقع التواصل الاجتماعي بتسجيلات نشرها جيش الاحتلال لجنود يعدون لساعة الصفر، قبل الضغط بفرح على صاعق التفجيرات.

فيما تناقل مواطنون يقيمون في أحياء جنين المرتفعة وفي بلدات مجاورة كبرقين وكفر دان ومثلث الشهداء، المشاهد القاسية للتفجيرات، التي شعروا بما أحدثته.




معتز أبو طبيخ.. دراجة ورصاصة وحزن مؤجل

عبد الباسط خلف- اتشحت تعابير دانا أبو طبيخ بالأسى، وهي تسرد اللحظات القاسية التي عاشتها عائلتها، عقب ارتقاء شقيقها الفتى معتز (16 عاما)، في اللحظات الأولى من عدوان 21 كانون الثاني الماضي.

وجسدت أبو طبيخ أحزان أسرتها وجرحها المفتوح، الذي اتسع إثر رفض الاحتلال تشييع الجثامين.

وروت بأن العائلة عاشت 14 يوما شديدة القهر، فقد نقلت رصاصة احتلالية أصابت خاصرة، “عزو”، الابن الأصغر والمدلل فيها من بيته إلى ثلاجة مستشفى جنين الحكومي، التي لا تبعد كثيرًا عن بيت معتز وغرف نومه ومسرح أحلامه.

الفطور الأخير

وتابعت دانا: قبل اقتحام جيش الاحتلال المدينة، طلب أخي تناول الإفطار مع والدتي، على غير عادته، وألح عليها تحضير الجبن المقلي، ثم ركب دراجته وسار إلى مسجد القاضي، وأدى صلاة الظهر الأخيرة، واتصلت به أمي عندما علمت بالاقتحام وطلبت منه ألا يأتي إلى الحي؛ بسبب الاقتحام، فأخبرها أنه بخير، وهو على بعد خطوات من البيت في حي الهدف.

ووفق الأخت المكلومة، فقد كان “أبو العز” كما تطلق عليه أسرته، على دراجته في منطقة الكينا بحي الهدف، لكن رصاص الاحتلال أصابه بمقتل، دون أن يشعر بما حصل معه، فواصل السير حتى بيت صديقه أحمد عمران، الذي اكتشف أن رفيقه ينزف، قبل أن يفقد وعيه وعلمت العائلة لاحقا بتهتك كبد ابنها وشرايينه.

وأكملت: أعاق الاحتلال وصول سيارة الإسعاف إلى موقع إصابة أخي، وظل في منزل صديقه حتى نجح المسعفون في العبور.

وأضافت وهي محزونة بأن عدة طلقات أصابت جسم دراجة شقيقها وعجلاتها، ما يؤكد أنه كان مستهدفا، وتهمته محاولة الوصول إلى البيت والسير في الشارع على دراجة!

ووصفت تأجيل دفن شقيقها بجبل من الأحزان فوق قلب أسرتها، لكنها أشارت إلى اللحظات الأثقل التي عاشت العائلة، أمس الأول، حينما وصل جثمانه إلى بيت العائلة، وأدى الأقارب صلاة الجنازة عليه، لكن الاحتلال عاد مرة أخرى وأجل الدفن.

وأبصر معتز النور مستهل تشرين الأول 2008، ويحمل الترتيب السادس في عائلته، فيسبقه جهاد، الذي توفي في أوج شبابه عام 2019، إثر مرض متلازمة داون، تتبعه دانا، فهديل ثم أسيل وأحمد.

قلب الهجوم

واستردت أبو طبيخ هوايات شقيقها، الذي كان قلب هجوم فريق كرة القدم في الحي والمدرسة، وخطط لدراسة هندسة السيارات، وبدأ في صفه الحادي عشر بالمدرسة الصناعية، وكان متفوقا ومحبوبا بين معلميه ورفاق صفه.

ورسمت صورة لأخيها الذين جمع بين خفة الدم والمزاح والدعابة، وتحمل المسؤولية بوقت مبكر، وقد كان الساعد الأيمن لوالديه.

أحب معتز التصوير كثيرا، وحرص على الاهتمام بلباسه، وترك نهر أحزان يجري في عيون والدته معلمة الأحياء نهى عيوش، التي كانت طوال وجوده على مدى أسبوعين، في ثلاجة المستشفى تدخل إلى غرفته وتتلمس فراشه، وتشتم رائحة ملابسه وكتبه، وتبحث عن كراساته وتبكي.

واختتمت دانا بحسرة: إن العائلة بدأت منذ أسبوعين تستشعر ثقل غياب ابنها المدلل، الذي كان يصنع الفرح في البيت، ويحضر النكات دائمًا.

أحزان ثقال

وعلى غير العادة، شيّع عدد مُقلص من أهالي جنين ومخيمها، 11 شهيدا ارتقوا خلال العدوان الواسع خلال 14 يوما، ولم يحتضنهم التراب بأمر المحتل، بينهم 7 دفنوا في مقبرة شهداء مخيم جنين.

وسارت مركبات الإسعاف من أمام مستشفى ابن سينا، وعلى متنها الجثامين التي ماطل جيش الاحتلال في السماح بدفنها، بعد تجميعها من ثلاجات مستشفى جنين الحكومي و”ابن سينا” ومركز قباطية الطبي ووجهتها مقبرة شهداء مخيم جنين الجديدة.

وتحلق أقرباء الشهداء أمام سبعة قبور متجاورة، فيما فاضت أحزان الأمهات، قبل أن يبدأ المشيعون بالصلاة الأخيرة على الجثامين ومواراتها الثرى، وسط تحليق مكثف لطائرات الاستطلاع، وانتشار آليات للاحتلال على مسافة قريبة من المقبرة.

وزاد من أحزان العائلات فرض الاحتلال قيودا مشددة على التشييع، وتأخيره 24 ساعة عن موعده بسبب تفجيرات ظهيرة الأحد الضخمة، وانتظارها أمس الأول ساعات طويلة في مستشفى ابن سينا.

بدوره، أفاد مدير مستشفى جنين الحكومي، وسام بكر لـ”الحياة الجديدة”، بأن 4 شهداء كانوا في ثلاجات المستشفى، التي لا تتسع إلا لتسعة جثامين.

واستعاد بكر ذكريات الاجتياح الكبير في نيسان 2002، عندما كان طبيبا مقيما في المستشفى، وشاهد استحداث عدة قبور جماعية في ساحته الأمامية.

والشهداء الذين جرى تشييعهم بجوار أبو طبيخ هم: خليل السعدي (35 عاما)، والمسن وليد لحلوح (73 عاما)، وأمين صلاحات (57 عاما)، ورائد أبو السباع (53 عاما)، وحسين أبو الهيجا (38 عاما)، وعبد الجواد الغول (26 عاما).

ومنذ بدء العدوان على جنين قبل 14 يوما، استشهد في المدينة ومخيمها وريفها 25 مواطنا بينهم الطفلة ليلى الخطيب (عامان ونصف العام) والسبعيني وليد لحلوح.