بشار دراغمة- في زمن الاحتلال يمنع المحامون من زيارة الأسرى، ويمنع الأهل من السؤال، وتمنع الرسائل من العبور، ما يخرج من خلف الجدران ليس أخبارا، بل نداءات تقشعر لها الأبدان، أصوات متقطعة كأنها تنبع من المقابر.
هم لا يتحدثون عن وجعهم، ليس لأنه ليس وجعا، بل لأنه طاعون الذاكرة.. لأن الحكاية أكبر من الحديث، ولأن ما خلف القضبان ليس سجنا فحسب، بل مقصلة بطيئة، تتفنن في اغتيال ما تبقى من الإنسان في الإنسان.
في فلسطين، لا يكبر الأطفال والفتية وحدهم، بل تكبر معهم الذاكرة، يكبر الفقد، وتكبر الغصة.
في السابع عشر من نيسان، ثمة أكثر من 9900 أسير لا تزال أرواحهم محاصرة بين قضبان الحديد، فيما تمضي أجسادهم، بصمت مجهول، في صراع عنيد مع النسيان.
كان “عاطف” أبا يشبه كل آباء الأرض، إلا أنه مذ ولدت فلسطين مذبوحة، صار له قلبان: قلب في صدره، وقلب يضرب في الزنزانة لا أحد يعرف رقمها، حيث يحتجز ابنه سلمان، الغائب منذ عامين في عتمة السجون.
يمضي عاطف إلى مقر الصليب الأحمر بشكل متكرر، بلهفة تشبه صلاة، يحمل في جيبه صورة لسلمان قبل الاعتقال، كان يبتسم فيها بعينين يافعتين، الآن على يقين بأن الابتسامة غابت كما غاب صاحبها خلف القضبان.
“كل ما أريده هو خبر، لا علم ولا خبر!”، يقولها عاطف وهو يعتصر ألما، مضيفا “بالكاد نحصل على معلومة حول مكان تواجد إبني، مثله مثل آلاف الأسرى في غياهب السجون، ما نتمناه هو أن نطمئن على أبنائنا.. نعرف أين هم، لا يسمح لنا بزيارة السجن ولا بحضور محاكمة وحتى المحامين بالكاد يحصلون على معلومة”.
الحال ذاته يعيشه سعيد مع ابنه مجد المعتقل منذ نحو عام، فلا أحد يعرف مصيره وفي أي زنزانة انتهى به المطاف في ظل تعتيم متواصل من إدارات سجون الاحتلال حول مصير الأسرى.
يحاول سعيد جاهدا التواصل مع مؤسسات حقوق الإنسان التي يحصل على أرقامها من ذوي أسرى آخرين عايشوا ذات التجربة لعله يظفر بمعلومة تبرد قلبه، لكن كل ما استطاع جمعه من معلومات هو معرفة اسم السجن المتواجد فيه نجله دون معرفة حاله وظروفه.
لا يشتهي الأسير في فلسطين أكثر من بحة صوت أمه حين تناديه باسمه، لكن حتى هذا الحلم يبدو بعيدا في ظل قيود غير مسبوقة تفرضها سلطات الاحتلال على الأسرى.
منذ أن أعلنت دولة الاحتلال حربها المعلنة وغير المعلنة على غزة، لم تسلم الزنازين من رصاصها، معنوي وربما آخر جسدي.
أكثر من 60 شهيدا ارتقوا في سجون الاحتلال منذ بدء الحرب الأخيرة منهم 40 على الأقل من غزة وفق إحصائيات هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير، كان آخرهم الفتى وليد أحمد، ابن بلدة سلواد، الذي صعد روحه الشهر الماضي، دون أن تمنح له حتى جنازة، جرد من الحياة ثم من الوداع، ثم من الاعتراف بموته.
العشرات الذين ارتقوا في سجون الاحتلال منذ بدء حرب الإبادة، يرفض الاحتلال الاعتراف بمصيرهم، ويصر على أن الموت هناك مسألة أمنية.
في إحصائية لنادي الأسير، تجاوز عدد الأسرى حتى بداية نيسان 9900 أسير بينما بلغ عدد المعتقلين الإداريين 3498، بلا محاكمة، بلا تهمة، بلا أفق. ومنهم 400 طفل، لا تعرف دمى العيد وجوههم، و27 أسيرة يكتبن على جدران الزنازين قصائد لم تنشر.

