
أمين الحاج
لم تكن هذه العبارة يوماً توجه لدولة الاحتلال، لكن يبدو أن الزمن يتغير، والأقنعة تسقط، وها هي اليوم تزاحم أنظمة القمع والإبادة على المقاعد الخلفية للنظام الدولي، فمع اتساع رقعة الإدانات، وتعليق الاتفاقيات، والتهديد بفرض العقوبات، لم يعد وصف المنبوذة مبالغة، بل هو توصيف سياسي وأخلاقي لحقيقة باتت تفرض نفسها بقوة، فهي لم تعد شريكاً، بل عبئاً على ما بقي من ضمير العالم.
عندما تتوالى بيانات الإدانة من قادة دول غربية، وتُصدر منظمات أممية تحذيرات من مجاعة جماعية، وتمتلئ شوارع أوروبا بلافتات تصف دولة الاحتلال بمرتكبة الإبادة، فإننا لسنا أمام أزمة دبلوماسية عابرة، بل أمام تحول تاريخي في موقعها على خريطة “الشرعية الدولية”، وهي التي طالما تمتعت بحصانة سياسية وإعلامية، كما “تمتعت” بقتل الأطفال الفلسطينيين، تجد نفسها اليوم على مشارف العزلة، الأخلاقية والقانونية، ولا نبالغ إذا قلنا أنها دخلت فعلياً مرحلة “الدولة المنبوذة”.
منذ السابع من أكتوبر شنت دولة الاحتلال حرب إبادة جماعية على قطاع غزة، خلفت حتى الآن عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، أغلبهم من الأطفال والنساء، وفق تقارير محلية ودولية، واستهدفت مدارس ومستشفيات وملاجئ، وهجرت مئات الآلاف، ومنعت دخول الغذاء والماء والدواء لفترات طويلة سابقاً، ومؤخراً لمدة تزيد على الشهرين، متسببة بكارثة إنسانية لم يشهدها القرن الحادي والعشرون، وفي كل مرة تعلن “إدخال مساعدات”، لا تكون إلا قطرات، لا تطفئ حرائق الجوع، ولا تسعف المحتضرين.
لكن الجديد هذه المرة ليس فقط حجم الجريمة، ولا اتساع رقعتها، ولا همجيتها، بل في حجم الرفض الدولي، فقادة دول غربية كبريطانيا وفرنسا وكندا حذروا من اتخاذ “إجراءات ملموسة” إذا لم توقف عملياتها في غزة، وفي موقف غير مسبوق من حلفاء تاريخيين ومؤسسين، بريطانيا أعلنت تعليق محادثات التجارة الحرة، والاتحاد الأوروبي بدأ بمراجعة اتفاقية الشراكة، فيما طالبت دول أعضاء أخرى بفرض عقوبات على وزراء حكومة نتنياهو اليمينية، وفي بيان مشترك لاثنتين وعشرين دولة غربية، طالبتها بالسماح بدخول فوري وكامل للمساعدات إلى غزة، ولم تعد البيانات ترفق بمواقف رمادية، بل توصف هذه الأفعال بغير المبررة أخلاقياً وذات نتائج عكسية، وأنها تنطوي على انتهاكات صارخة للقانون الدولي.
وحتى الإدارة الأميركية، ورغم تمسكها بالدعم السياسي والعسكري، بدأت تشهد تصدعات في خطابها الداخلي، وتزايدت الأصوات المحذرة من تبعات دعم غير مشروط لدولة تنتهك القانون الإنساني جهاراً نهاراً، او على مسمع العالم وبصره، وبدأت مواقف حكومة الاحتلال تقابل بالرفض والسخرية، كما حدث حين اتهمت الخارجية الإسرائيلية الأوروبيين بـ”سوء الفهم الكامل”، بل واعتبرت مطالباتهم بوقف الحرب دعماً لحماس.
ما يحدث اليوم ليس مجرد “ضغط دولي”، بل إعلان عالمي بأن دولة الاحتلال لم تعد كياناً فوق القانون، فقد أصبح القتل الممنهج، والتجويع المتعمد، والاستيطان الوقح، والتطهير العرقي، والتهجير الجماعي، عاراً عالمياً لا يمكن التستر عليه، ومع كل طفل ينتشل أشلاء من تحت الأنقاض، وكل أم تفقد أبناءها دفعة واحدة، يتآكل “رصيدها الأخلاقي” في عين داعميها، ذلك الرصيد الذي تأسس على وهم أنها “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط.
وبهذا فإن العالم لا يعبر فقط عن الغضب، بل عن الرغبة في فك الارتباط مع دولة لم تعد تحترم أي مبدأ من مبادئ القانون الدولي، وتصر على مواصلة جرائمها باسم “حق الدفاع عن النفس”، هذا التحول لا يحدث من فراغ، بل نتيجة تراكمات لعقود من التواطؤ والصمت، تلك التي كسرت اليوم بفعل عدسات الحقيقة وجثث الأطفال والنساء، وهي اليوم – بجرائمها – لم تسلب الفلسطينيين حياتهم فقط، بل سلبت نفسها موقعها في نظام دولي وفر لها الغطاء دائماً، أي أنها الآن باتت دولة منبوذة، أخلاقياً وسياسياً، والخطوة القادمة ليست الشجب، بل المحاسبة.
………….
إسرائيل اليوم – بجرائمها – لم تسلب الفلسطينيين حياتهم فقط، بل سلبت نفسها موقعها في نظام دولي وفر لها الغطاء دائماً، أي أنها الآن باتت دولة منبوذة، أخلاقياً وسياسياً، والخطوة القادمة ليست الشجب، بل المحاسبة.