إسراء البلعاوي- حلَّتِ الحربُ الإسرائيليةُ التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023 بمُصاب جَلل على النساء ذوات الأمراض الصعبة في قطاع غزة. فبين عشيةٍ وضحاها وجدنَ أنفسهنَّ دون أدوية أو علاج أو قدرة على التواصل مع أطبائهنَّ، بل دون مستوصف صغير يُعينهنَّ على تحمُّل أوجاعهن، حيث سرعان ما استُهدفت المشافي في كافة أنحاء القطاع.
ذلك في حين كانت القذائف والصواريخ تنال من كلِّ شيء حولهنَّ: من أجساد أقاربهنَّ وجيرانهنَّ، ومن بيوتهنَّ وممتلكاتهنَّ. وسرعان ما زاد النزوح المستمرُّ من أوجاعهنَّ في ظلِّ انعدام المقومات الصحية والمعيشية في الخيام التي تفتقر إلى أدنى مقومات النظافة الشخصية والراحة الجسدية.
معاناة فتحية كساب
تجلس فتحية كساب (62 عامًا) على جهاز غسيل الكُلَى في مستشفى ناصر بخان يونس مرهقة الجسد. ففي مشوارها المحدَّد بثلاث مرات أسبوعيًّا، تصل فتحية إلى قسم الكُلَى بعد أن تكون قد استقلَّت أكثر من وسيلة مواصلات، كعربة الكارو والتوك توك وسيارة البضائع، وهي جميعها تهزُّ جسدها المنهك وترجُّه رجًّا؛ فتزيد أوجاعه. ومع هذا الإرهاق، تصل فتحية شبه منهارة، وكما تصفها ابنتها لبنى: “تصل بوجه شاحب وتلتقط أنفاسها بصعوبة”.
قدِمت فتحية إلى هنا من “مخيَّم الصمود” الكائن في مواصي رفح، حيث نزحت مع عائلتها في الساعات الأولى لاجتياح رفح. جاءت بالتحديد من حيِّ البرازيل الحدودي مع مصر، وقد تزامن هذا النزوح مع نكستها الصحية؛ إذ أصبحت فتحية بين ليلة وضحاها من مرضى الفشل الكلوي.
تقول فتحية إن أقصى ما تتمنى في هذا الوقت تناولُ تفاحة أو كوب عصير أو أي صنف من الطعام يمنحها بعض القدرة على التحمُّل. لكن أبناءها الخمسة عاجزون عن شراء ثمرة واحدة يبلغ ثمنها -إن توفرت- ثلاثة دولارات. وعليها أن تقتات على البقوليات أو الأرزِّ من التكيَّة الخيرية الخاصة بهم. وتضيف بلهجتها العامية: “مبارح وقعت من طولي، المرض اشتدَّ عليَّ والجوع دمَّرني!”
في الخيمة، الكثير من الأمور تُنغِّص على فتحية وتضاعف آلامها كمريضة فشل كُلوي. البرد القارس يجعلها -كما تقول ابنتها- تتوقَّع كلَّ ليلة أن تكون ليلتها الأخيرة في الحياة. وتُضيف ابنتها: “في الخيمة لا دفءَ، ولا نومَ، ولا طعام مناسب”.
الحاجة إلى الحمام أيضًا تضاعف معاناة فتحية؛ إذ عليها أن تترك الخيمةَ في منتصف الليل البارد للغاية كي تصل إلى الحمام المغطَّى بقطعة من القماش وتقضي حاجتها متكئة على اثنتين من بناتها. تقول فتحية إن همَّها يزداد عندما يأتي موعد استحمامها، حيث تقضي المزيدَ من الوقت في الحمام الذي يقتصر على فتحة صغيرة لتصريف الفضلات والماء.
السرطان ينهش عُلا أكثر
بالقرب من أنقاض مدينة حمد جنوب قطاع غزة، أقامت عائلة علا أحمد (42 عامًا) خيمتها المهترئة بجوار العديد من الخيام. تجلس علا أمام الخيمة وهي تنظر بوجع إلى صغيرتها ليان ذات الاثني عشر عامًا، التي تقوم بالمهام المنزلية نيابةً عنها، واحدة تلو الأخرى.
كانت ليلتها الماضية مرعبةً، ظلَّت طيلةَ الوقت يمتلكها الخوف الشديد من الكلاب، حيث تخيَّلت الكلاب تنهش نايلون الخيمة وتقتحمها وتعقر أبناءها. وتضيف عُلا أنها الآن عاجزة عن خدمة أبنائها الأربعة بسبب مرض سرطان الثدي الذي أُصيبت به في عام 2018. وتقول: “يحزنني أنني عاجزة صحيًّا عن خدمة أبنائي، فلا أستطيع غسل الملابس أو الأواني، وقدراتي محدودة في طهي الطعام”.
بالعودة إلى الوراء، إلى السابع من أكتوبر عام 2023، كانت علا، المقيمة آنذاك في حي القصاصيب في جباليا (شمال قطاع غزة) تستأنف رحلة علاجها القاسية. بالتحديد، كانت على موعد مع حقن هرموني ملح في مستشفى المطلع الخاص بمرضى السرطان، وكذلك كان عليها الخضوع لجهاز الأشعة لتصوير منطقة تحت الإبط، حيث ظهرت كتلة ما في مستشفى التركي المتخصص وسط القطاع. لكن الحرب حرمتها لما يقارب العام من العلاج داخل القطاع أو حتى السفر، رغم حصولها على تحويلة طبية للعلاج في الإمارات.
توضح لنا عُلا أنه في أغسطس/آب الماضي، أعلن مستشفى ناصر بخان يونس أنه تجهز بعد الانسحاب الإسرائيلي من خان يونس لاستقبال مرضى السرطان. فسارعت عُلا لمتابعة وضعها الصحي. تقول عُلا: “للأسف، خضعتُ لكورس علاج لم يكن مناسبًا تمامًا لحالتي، حيث ضعفت مناعتي أكثر وتحسَّس جسدي من الأدوية”.
فيما بعدُ، انتقلت علا لمتابعة حالتها في المستشفى الأوربِّي. وعن هذه الرحلة العلاجية تقول: “عند ذَهابي إلى المستشفى الأوربي أضع روحي على كفِّي كما يقال، فالمنطقة خطرة منذ اجتياح رفح. كما أن المواصلات المتعبة تُنهكني، خاصة أنني -كغيري من أبناء غزة- أعاني كثيرًا من ندرة الطعام المناسب لي”.
وجع “الألزهايمر“
مع اللحظات الأولى لاندلاع الحرب، أُجبرت سكوت على النزوح من منطقة الشوكة الحدودية في رفح نحو بيت ابنها الكائن في حي الشابورة بالمدينة ذاتها. كان النزوح قاسيًا للغاية عليها كونها امرأة سبعينية مقعدة تعاني من عدة أمراض مزمنة، أصعبها “الزهايمر”.
عندما تحدثنا إلى ابنتها سُهى، قالت إنه بعد مرور أكثر من عام على الحرب تعرضت والدتها للعديد من المواقف المؤلمة. لن تنسى يوم أُجبرت تحت جنح الظلام على الخروج بأمِّها من منزل أخيها لتقضي ليلة كاملة جالسة على كرسي متحرك أمدَّها به رجل، ولم يكن بد من أن تقضي عليه حاجتها تَبَوُّلًا وتبرزًا! تقول سُهى: “في تلك الليلة خرجنا تحت أزيز الرصاص نحو أقرب مدرسة، وهناك قضت أمي ليلتها تغفو وتصحو على الكرسي المتحرك. والأصعب أنها قضت حاجتها في ملابسها لعدم وجود حفاضات كبار السن معنا، ولم أتمكن من تنظيفها إلا في الصباح”.
اليوم، تشقى ابنة سكوت كثيرًا في سبيل تلبية حاجة أمها وخدمتها في خيمة نُصبت بالقرب من جامعة الأقصى في خان يونس. فهي أيضًا تعاني من حساسية جلدية زادت آلامها في الخيمة. تقول سُهى: “لقد أصبح توفير الشامبو والصابون المناسب في ظلِّ الحصار المشدد أمرًا شبه مستحيل”. وتضيف الابنة البارَّة: “تسبَّب شُحُّ المياه في مضاعفة المعاناة. أمي تحتاج إلى الكثير من المياه للمحافظة على نظافتها الشخصية، كما زاد شُحُّ الطعام الشديد وحرمانها من تناول الخضار واللحوم والفواكه من معاناتها من الإمساك وخلافه. نحن الآن مضطرون إلى إطعامها من طعام التكية الذي هو في الغالب من البقوليات”.
في هذه الليالي الباردة، ينخر الصقيع جسد سكوت. وقد دفع هذا الحال أحد أبناء سكوت للمخاطرة بروحه والذَّهاب إلى بيتهم في منطقة الشوكة الواقعة شرق رفح لجلب البطاطين من بين ركام منزلهم. تقول سُهى: “كانت أمي تُغطى ببطانية واحدة. وفي الليل، بينما البرد لا يُحتمل، نصارع من أجل تدفئة أمي بأنفاسنا. نُغلق الخيمة قدر المستطاع ونجلس حولها ندلك يدها الباردة تارة وتارة أخرى ندلك قدميها”.